إغراق الاقتصاد فــــي بحر السياسة

ميناءا الفاو الكبير وميناء مبارك آخر قصة من قصص التوتر السياسي بين العراق والكويت. القصة التي بدأت متوترة جداً سرعان ما خفت لهيبها بعد آخر زيارة رسمية عراقية للكويت ترأسها نوري المالكي رئيس الوزراء في الصيف الماضي، حينما بدا أن العراق قدّم تنازلات مهمة لحل هذه القضية، ولم يستوفِ أيا من مطالبه.نظرة سريعة لواقع الحال البحري العراقي توضح أن جميع الموانئ العراقية تقع على قنوات بحرية ضيقة،
2012-11-14

وارد بدر السالم

كاتب من العراق


شارك

ميناءا الفاو الكبير وميناء مبارك آخر قصة من قصص التوتر السياسي بين العراق والكويت. القصة التي بدأت متوترة جداً سرعان ما خفت لهيبها بعد آخر زيارة رسمية عراقية للكويت ترأسها نوري المالكي رئيس الوزراء في الصيف الماضي، حينما بدا أن العراق قدّم تنازلات مهمة لحل هذه القضية، ولم يستوفِ أيا من مطالبه.
نظرة سريعة لواقع الحال البحري العراقي توضح أن جميع الموانئ العراقية تقع على قنوات بحرية ضيقة، سواء في قناة أم قصر أو شط العرب. ولا يوجد ميناء عراقي تجاري على ساحل الخليج العربي، لأن العراق لا يمتلك ساحلاً يطل على الخليج إلا بمسافة قدرها 37 ميلاً بحرياً. شكلت هذه الحال، منذ زمن طويل، عبئاً نفسياً واقتصادياً على الجانب العراقي، ما دعا القيادة العراقية في العام 1986 الى التفكير بإنشاء ميناء تجاري في الفاو يستوعب السفن البحرية العالمية، ليشكل نافذة واسعة تطل على الخليج العربي ومنه على العالم. غير أن تلك الفكرة لم تفعّل وقتها بسبب انشغال النظام العراقي بحربه مع إيران. ثم أعيد طرحها عام 2005 وظلت في المداولة الإعلامية وقتاً طويلا من دون تنفيذ، لأن الفكرة طرحت للاستثمار، ولا يوجد في العراق تشريع يشجع على إنشاء مشاريع كبرى، سوى القانون 13 الذي صدر عام 2006.
إنها قصة ميناء الفاو الكبير. القضية وطنية في أساسها، وميناء الفاو علامة من علامات البناء الاستراتيجي العراقي، وهي لا تخص حزبا ولا طائفة. تمت الإشارة الأولى للاهتمام بهذا المشروع من قبل الحكومة بتشكيل لجان متوالية منذ عام 2008، وهذا ما جعلها تقبل عرضاً استثمارياً من قبل الحكومة الإيطالية على شكل منحة مجانية للعراق جرت تعديلات فنية عليها من قبل لجان متخصصة حتى عام 2010. وتم التعاقد مع اتحاد الشركات الإيطالي الذي يضم شركات حكومية ايطالية، وطلب مدة سنتين لإنجاز التصاميم النهائية للمشروع بـكلفة 2.8 مليار يورو اي ما يعادل 3,6 مليارات دولار تدفع على ثلاث سنوات. وهذا ما دفع وزارة النقل أن تذهب الى التنفيذ بالتجزئة فأعلنت عن تنفيذ كاسر الأمواج، وهذا يعني أن تنفيذ بناء الميناء سيتأخر الى العام 2016.

قصة ميناء

ما هي علاقة ميناء مبارك الكويتي بمشروع عراقي على مياهه الوطنية؟ وما أهمية ميناء الفاو الكبير بالنسبة للعراق حتى «تتدخل» الكويت بشكل مباشر لخلق أزمة سياسية كبيرة وصلت ذروتها الى التهديد باللجوء الى السلاح؟ الموقع الاستراتيجي لميناء الفاو هو سر أهميته، فهو يشجع على ربط ميناء الفاو «القديم» بمشروع القناة الجافة بشمال أوروبا. وهذا يعني ان الميناء سيكون أقصر وأسرع وأكثر أمناً كطريق ناقل لبضائع العالم من شماله الى جنوبه وبالعكس، مقارنة بقناة السويس أو برأس الرجاء الصالح، هي إذاً أهمية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية. وما شجع على هذا المشروع هو قيام وزارة النقل العراقية بمد سكة حديد جديدة من ميناء أم قصر الى الشعيبة قرب البصرة، وتشغيل القناة الجافة في ميناء أم قصر الى سوريا وتركيا وجعلها محفزا للشركات العالمية للحصول على موطئ قدم استثماري في الميناء وفق عقود التشغيل المشترك .
توسطت الحكومة الكويتية لدى الحكومة الأميركية عبر سفارتها في بغداد ليوقف العراق مشروع بناء ميناء الفاو الكبير في الوقت الحاضر، مقابل تعهد الكويت بإعمار ميناء أم قصر على نفقتها الخاصة، وأن يتعهد العراق ببناء مينائه بعد خمسة عشر عاماً. ويبدو أن الجانب العراقي كان مصرا على المشروع، فباشرت الكويت ببناء ميناء في جزيرة بوبيان أطلق عليه أسم ميناء مبارك. ويذكر أن الكويت استفادت من موانئها إبان الحرب العراقية الإيرانية، فأصبحت طاقتها أضعاف طاقة الموانئ العراقية بسبب انشغال العراق بالحرب مع ايران، وبالتالي فإن بناء ميناء الفاو الجديد سيمتص الزخم العالمي على الموانئ الكويتية الثلاثة.
يبدو أن الكويت فاجأت الحكومة العراقية في اختيارها موقع ميناء مبارك حينما عينت أضيق منطقة في خور عبد الله لإعاقة الملاحة في ميناء أم قصر الشمالي والجنوبي، وهذه وحدها تشكل ما نسبته 90 في المئة من الموانئ العراقية. ويبدو أن اختيار الكويت هذا الموقع هو للاستفادة من آخر نقطة بحرية اغتنمتها من العراق في قرار مجلس الأمن 838 القاضي بترسيم الحدود العراقية الكويتية بعد حرب الخليج الأولى.

إحصاءات رقمية

بدأت الموانئ الكويتية بالتدهور الاقتصادي منذ العام 2008. وموانئ الكويت هي ميناء الشويخ الرئيسي، وتبلغ مساحة حوضه المائي 1.2 مليون متر ومساحته الاجمالية 3.2 ملايين متر مربع، ويوجد فيه 21 مرسى منها 14 مرسى بعمق 10 امتار، ويبلغ طول مراسي الميناء 4055 مترا. وثاني الموانئ هو الشعيبة ويبلغ عدد مراسيه 20 مرسى وبطول 4068 متراً، وأخيرا ميناء الدوحة الساحلي الصغير، بعمق 4.3 امتار. وتشير أحصائيات موثقة الى أن عمل هذه الموانئ يعرف انخفاضات مستمرة في الوارد الاقتصادي كما يتراجع إقبال السفن التجارية العالمية وفق البيانات المعتمدة. فقد بلغ عدد السفن الصغيرة والكبيرة القادمة الى الموانئ الكويتية 11742 سفينة عام 2007، وثم راح ينخفض، فبلغ 10739 سفينة العام 2008، ثم 9644 سفينة العام 2009، علما بان الطاقة القصوى للموانئ الكويتية تستوعب حوالي 14000 سفينة. وكان اجمالي البضائع الواردة للموانئ الكويتية 26 مليون طن خلال عام 2008 (بعد تدوير الارقام) وانخفضت الى 24 مليون طن عام 2009 . وبلغ مجموع البضائع الصادرة من الموانئ الكويتية 4,7 ملايين طن خلال عام 2008 انخفضت الى 4.4 ملايين طن خلال عام 2009. وبلغ مجموع الواردات والصادرات للموانئ الكويتية 31 مليون طن خلال عام 2008 انخفضت الى 29 مليون طن خلال عام 2009 . أما نسبة الطاقة التشغيلية للموانئ الكويتية من الطاقة القصوى فبلغت 83 في المئة خلال عام 2007 وانخفضت الى 76 في المئة خلال عام 2008 ثم الى 68 في المئة خلال عام 2009 ، علما بان حوالي 50 في المئة منها يشتغل لصالح العراق، وأغلبها كان لخدمة قوات الاحتلال. وأذا ما امتنعت الشركات المتعاقدة مع وزارة النفط العراقية وكذلك بعض الوزارات، مثل الكهرباء والدفاع، عن استيراد بضائعها عبر الموانئ الكويتية، فمن المتوقع أن تخفض الطاقة التشغيلية للموانئ الكويتية الى حوالي 30 في المئة.
وبالمقابل انتعشت الموانئ العراقية اقتصاديا خلال الاعوام نفسها حيث بلغت الايرادات إليها 115 مليار دينار لعام 2007، ارتفعت الى 138 مليار دينار لعام 2008 ثم الى 154 مليار دينار لعام 2009 وأخيرا الى 186 مليار طن العام 2010. وارتفع معدل تفريغ الحاويات من 81 حاوية يوميا عام 2005 الى اكثر من 1300 حاوية يوميا عام 2010 وارتفع عدد السفن من 2300 سفينة عام 2007 الى حوالي 5500 سفينة عام 2009، والبضائع من مليوني طن الى 11 مليون طن، كما تمت زيادة أعماق ميناء ام قصر من 4 / 5 متر الى 12.5 مترا، أي الى العمق التصميمي الاقصى خلال عام 2010، واصبح الميناء يستقبل السفن الكبيرة، وكذلك تم انتشال جميع الغوارق المؤثرة في حركة الملاحة في قناة أم قصر وخور الزبير، وبوشر منذ عام 2008 بتنفيذ بناء ميناء العراق للحاويات في أم قصر بطاقة مليون ونصف مليون حاوية سنويا وبطول 450 مترا.

نيات سياسية

الخلاصة أن الموانئ الكويتية أنشئت وتطورت خلال الحرب العراقية الايرانية، واعتاشت طيلة الفترة السابقة بسبب اغلاق الموانئ العراقية. وبعد عام 2003، انتعشت هذه الموانئ لإسناد قوات الاحتلال الاميركي للعراق. وقد أدى خروج قوات الاحتلال الى تدهور الاوضاع الاقتصادية للموانئ الكويتية. مع ملاحظة أن تلك الموانئ تسد حاجة الكويت لأكثر من 20 سنة قادمة، والبلاد لا تحتاج الى موانئ جديدة. أما انشاء ميناء كويتي للبضائع العراقية فيعني نفوذا كويتيا على السيادة العراقية، وأما اختيار موقع ميناء مبارك في أضيق نقطة من قناة خور عبد الله فهو لخنق الموانئ العراقية، وليصبح وصول البضائع العراقية لا يتم إلا عن طريق ميناء كويتي بدلا من الموانئ العراقية في أم قصر وخور الزبير. كما تسعى الكويت بكل قوة للحصول على الربط السككي مع العراق.
وصلت بعض التبريرات الى أن غض النظر عراقياً عن مشروع بناء ميناء مبارك الكويتي هو تمهيد لخروج العراق من البند السابع في قرار مجلس الأمن 838، علما بأن هذا المشروع لا علاقة له بالقرار المذكور. وبفرضية قبول العراق بتقسيم خور عبد الله وفقاً للتقسيم الصفري، فإن اختيار الكويت جزيرة بوبيان، وفي النقطة البحرية الأخيرة التي وفرها لها ذلك القرار، يخالف قانون البحار في المادة 70، الفقرة 2، التي توجب على الدول المتشاطئة أن لا تتلاعب بجغرافية الأرض وتحورها وفقا مصالحها.

مقالات من العراق

لطخة تلوث بلد الحضارات

فؤاد الحسن 2024-03-24

قررت وزارة الهجرة والمهجرين العراقية تحديد 30 حزيران/ يونيو من العام 2024 موعداً نهائياً لإغلاق مخيمات النازحين في إقليم كردستان، والتي يبلغ عددها 24 مخيماً، يسكنها نازحون من مناطق مختلفة،...

الموت امرأة من شنكَال

فؤاد الحسن 2024-03-13

نام الناس في الشوارع. وهناك بدأت الطوابير. طوابير استلام الطعام والأسرّة وارتجاء اقنعة التشرد الجديدة. كلما رأيتُ رجلاً أهلكه التعب ونحل جسده عرفته من سنجار، من دون أن أسمع لهجته،...

للكاتب نفسه

أرسين لوبين في رمضان القديم

ما كان يشدنا الى رمضان أيام زمان هو طقوسه وفرادته، لكونه شهراً متميزاً بكل شيء. ربما هذه نظرة طفولية سريعة لما مضى، فالطفولة اصل الأشياء، وفطرة الأرواح. فمن تلك الطقوس...