السياسات المالية البديلة: حتى لا يقال ليس لدينا بدائل في مصر

على الرغم من ضخامة الموارد التى دخلت الاقتصاد المصري بين عامي 1974 و2011 والتي تقدر بحوالي 850 مليار دولار، فقد ظل هذا الاقتصاد كسيحاً، سواء بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، أو بسبب الفساد وجماعات المصالح التي استنزفت جزءً كبيراً من الثروة الوطنية لصالح حفنة محدودة من الأشخاص. فما الذي يجري الآن؟ وما الممكن بديلاً له.
2019-05-26

عبد الخالق فاروق

خبير في الشؤون الاقتصادية والإستراتيجية ـ مصر


شارك

تمثِّل السياسة المالية للدولة أحد أركان أضلاع ثلاثة يشملها اقتصاد الدول الحديثة، تتساند معاً وتتفاعل بحيث تتكامل فى نتائجها سلباً أو إيجاباً، وهي:

- السياسات الاقتصادية الكلية (Macro) وتشمل سياسات الإنتاج والتوزيع والاستثمار والادخار والتصنيع، والسياسات الزراعية والتجارة الداخلية..

- السياسات المالية وما يشملها عادة من سياسات الإنفاق الحكومى وأولوياته، والسياسات الإيرادية وخصوصاً الضرائبية والجمركية، وغيرها مثل سياسات الدعم وشبكات الأمان الاجتماعي، ومنها كذلك سياسات التجنيب المالي (مثل حالة الصناديق والحسابات الخاصة).

- السياسات النقدية والمصرفية، بما تشمله عادة من أهداف، كالحفاظ على الاستقرار النقدي، وعلى معدلات للتضخم لا تؤدي إلى تأثيرات ضارة، وإدارة سياسات سعر الصرف بين العملة المحلية والعملات الأجنبية الرئيسة فى العالم، وإدارة الاحتياطي النقدي المتاح بالبنك المركزي، وإدارة السيولة المحلية..

I- السياسات الاقتصادية الكلية

عانت السياسة المالية الحكومية في مصر من مشكلات عميقة وتخبطات عديدة طوال الأربعين عاماً الماضية، خصوصاً بعد انتهاج الدولة لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وانتهاج نموذج مشوه لاقتصاد السوق، وآليات العرض والطلب غير المنضبط أو ما أُطلق عليه بعض الكتاب والمفكرين المصريين "الانفتاح سداح مداح".

فقد أسفرت السياسات المالية المتبعة طوال العقود الأربعة الماضية على النتائج التالية:

1- استمرار العجز فى الموازنة العامة للدولة عاماً بعد آخر حتى تجاوز في العام المالي 2015- 2016 حوالي 250 مليار جنيه، بما يشكل أكثر من 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالى (اتفاقية ماستريخت للاتحاد الأوروبي حددت العجز المسموح بما لا يتجاوز 3 في المئة من الناتج المحلي للدولة). واستمر العجز وقدر في موازنة عام 2017-2018 بحوالي 380 مليار جنيه.

2- على الرغم من تسجيل هذا العجز الكبير، فان النفقات العامة (سواء منها النفقات الجارية كالأجور والمرتبات ونفقات تشغيل الجهاز الحكومي ونفقات الصيانة.. أو النفقات الاستثمارية المدرجة فى الموازنة)، ليست قادرة على تلبية طموحات المواطنين المشروعة من جهة (انهيارمنظومات التعليم الحكومي والصحة..) ولا هي قادرة على توسيع القدرة الإنتاجية وأصول الإنتاج من ناحية أخرى. وهذا يقع إما بسبب تركيز الانفاق الاستثماري الحكومي على مشروعات البنية التحتية لتهيئة البيئة للمستثمرين، أو بالانشغال بما يُسمى المشروعات القومية الكبرى فى السنوات القليلة الماضية (مثل تفريعة قناة السويس الجديدة، أو العاصمة الإدارية الجديدة). وقد عمق ذلك من حالة الاختلال في التوازن الاقتصادي العام، وخصوصاً من تآكل وضعف قطاعات الإنتاج السلعي (الزراعة، الصناعة، الكهرباء والطاقة) التي تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد حديث.

3- وبالمقابل، فإن الإيرادات العامة والسيادية (كالضرائب والجمارك) تتزايد بنسب متواضعة. وتغلب فيها الضرائب التي تشكِّل في المتوسط 70 إلى 75 في المئة من مصادر الدخل للموازنة العامة للدولة، ويبقى للمنح والإيرادات الأخرى (ومعظمها ذات طبيعة ضريبية أيضًا) النسبة الباقية، خصوصًا بعد أن جرى تدمير وخصخصة الشركات العامة وأصولها الإنتاجية طوال العقود الثلاثة الماضية.

4- كما أن عملية تسرب مقصودة ومتعمدة لجانب كبير من الإيرادات العامة، يتخذ مساراً جانبياً حارماً الخزانة العامة من هذه الموارد المالية، مثل الصناديق والحسابات الخاصة التي شكلت حالة شاذة فى النظام المالي المصري، وبنت ركيزة من ركائز دولة الفساد فى مصر طوال الأربعة عقود الماضية.

5- وقد أدى العجز المتفاقم في الموازنة العامة للدولة، وغياب سياسات تنمية حقيقية، إلى استسهال الحكومات المتعاقبة الاقتراض من الداخل (عبر التمويل بالعجز أو طرح أذون خزانة وسندات دين)، أو من الخارج. فزاد الدين المحلي من 15 مليار جنيه عام 1982 إلى 888 مليار جنيه فى نهاية عام 2010. ثم قفز في السنوات الثمانية التى أعقبت ثورة 25 يناير 2011 فبلغ فى كانون الاول/ ديسمبر عام 2018 حوالى 3.8 تريليون جنيه، وبلغ الدين الخارجي أكثر من 96.0 مليار دولار في التاريخ نفسه، بما يشكل أكثر من 150في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

يستمر تعاظم العجز في الموازنة العامة للدولة عاماً بعد آخر. وهو تجاوز في العام المالي 2015 - 2016 حوالي 250 مليار جنيه، بما يشكل أكثر من 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقدر العجز في موازنة عام 2017-2018 بحوالي 380 مليار جنيه.

6- وتؤدي هذه السياسة قصيرة النظر إلى زيادة المخصصات السنوية لخدمة هذا الدين العام، سواء في صورة فوائد أو أقساط، مما يستهلك أكثر من ثلث استخدامات الموازنة العامة سنوياً، فيحرم القطاعات الأخرى من متطلباتها المالية.

7- أما ما يُسمى "مخصصات الدعم"، والتي تزايدت عاماً بعد آخر فأصبحت تبتلع أكثر من ربع استخدامات الموازنة العامة سنوياً، فهي بالإضافة إلى كونها مجرد انعكاس لحالة التآكل المتزايد في قدراتنا الإنتاجية (تدنى مستوى الاكتفاء الذاتي من أهم المحاصيل الغذائية)، وتغيّر نمط التصنيع المحلي بحيث أصبح 65 في المئة من مستلزمات التشغيل الصناعي تأتي من الخارج، فإنه على الجانب الآخر، جرى تغيير فى الأسس المحاسبية المعمول بها فى عام 2005-2006، بحيث بدأ احتساب منتجات البترول والطاقة بالأسعار العالمية، واعتبار الفارق بين سعر بيعها في السوق المحلية وسعر بيع نظيرتها في السوق العالمية دعماً! وكان لهذه المخاتلة والتلاعب المحاسبي تأثيرات سلبية فادحة على هياكل إنتاج بعض القطاعات الأخرى خصوصاً قطاعي الكهرباء والطاقة. أما دعم السلع التموينية ورغيف الخبز، فإن سوء إدارة هذه المنظومة وتربّح بعض التجار وأصحاب المخابز، قد أديا إلى تفاقم الخسائر الناتجة عن غياب الإستراتيجية البديلة.

8- أما مخصصات الأجور والمرتبات التى زادت بصورة ملحوظة بعد ثورة يناير 2011، بحيث أصبحت تستحوذ على حوالي ربع استخدامات الموازنة العامة للدولة سنوياً، فإن التشوه الهيكلي في هذا الباب، وعدم العدالة في توزيعه تجعل من الصعب القول بأن هذه الزيادة الكمية قد أدت لتحسن مستوى معيشة الجزء الأكبر من العاملين في أجهزة الدولة ومصالحها المختلفة.

9- وعلى الرغم من ضخامة الموارد المالية والاقتصادية التى دخلت الاقتصاد المصيى طوال الفترة الممتدة من عام 1974 حتى عشية خلع الرئيس حسني مبارك من سدة الحكم فى شباط/ فبراير عام 2011، والتى تقدر بحوالي 850 مليار دولار على الأقل (من مصادرها المختلفة مثل تحويلات العاملين المصريين بالخارج، دخل قناة السويس، دخل البترول، السياحة، القروض والمعونات العربية، القروض والمعونات الأمريكية والأوروبية، وقروض ومساعدات مؤسسات التمويل الدولية واليابان)، فقد ظل الاقتصاد المصري كسيحاً، وغير قادر على الانطلاق، سواء بسبب سوء الإدارة الاقتصادية، أو بسبب الفساد وجماعات المصالح، التي استنزفت جزءً كبيراً من الثروة الوطنية لصالح حفنة محدودة من الأشخاص.

II- السياسات الراهنة للنظام والحكم

إذا كان هذا هو الوضع العام للعجز فى الموازنة العامة للدولة، المتزايد عاماً بعد آخر، فلماذا لم تنجح الحكومات منذ عام 1974 حتى اليوم فى حل المشكلة وإنهائها؟ وهل الأزمة هي قلة الموارد أو هي سوء إدارة هذه الموارد؟ وهل هناك جهود جادة بذلت لتعظيم وزيادة الموارد العامة، أو أن هناك قيوداً غير مرئية، وضغوطاً على الحكومات والمسئولين فيها تحول دون تعظيم هذه الموارد المالية؟

كانت السياسات المالية – وغير المالية – في مصر طوال هذه الفترة الطويلة محكومة بأربعة عوامل رئيسة أدت إلى تفاقم هذه المشكلة وهي:

- سوء الإدارة الاقتصادية عموماً والمالية خصوصاً، وعدم الكفاءة فى إدارة هذه الموارد المالية وغير المالية، والإهدار والتسيب فى الإنفاق الحكومي.

- ضغوط جماعات المصالح الجدد، أو ما أطلق عليه فى الأدبيات والخطاب الرسمي والإعلامي المصري طوال هذه الفترة “بالمستثمرين" وطبقة رجال المال والأعمال الجدد، الذين لم يتوانوا عن الضغط المستمر على النظام والحكم فى عهود السادات ومبارك والسيسي، من أجل تغيير البنية التشريعية الضريبية والجمركية والاستيرادية والنقد الأجنبي والائتمان المصرفي.. بغاية تعظيم مكاسبهم.

- انتشار الفساد والمحسوبية والمجاملة على حساب المال العام والمصلحة العامة، بدءً من السياسيين ورجال البرلمان والتشريع، ورجال العمل التنفيذي بالمحليات والمحافظات، مروراً بالموظفين المسئولين عن التحصيل الضريبي والربط الجمركي، والتفتيش على تأمينات العاملين في المنشآت الخاصة، وانتهاءً بصغار الموظفين في الإدارات المختلفة.

تتزايد الإيرادات العامة والسيادية (كالضرائب والجمارك) بنسب متواضعة. وتغلب فيها الضرائب التي تشكِّل في المتوسط 70 إلى 75 في المئة من مصادر الدخل للموازنة العامة للدولة.

- ضغوط المؤسسات التمويلية الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليان)، والولايات المتحدة والدول الغربية عموماً، والدول الخليجية خصوصاً من أجل تسهيل أعمال القطاع الخاص ورجال المال والأعمال والمستثمرين الجدد.

كل هذه العوامل لعبت دوراً كبيراً في عدم اتخاذ القرارات الصحيحة والملائمة لتصحيح هذه السياسات المالية. وتتمثل أخطاء السياسات المالية الراهنة في:

1- مع اعتماد الدولة لفلسفة السوق الحر والانفتاح الاقتصادي منذ عام 1974، وتشجيع رجال المال والأعمال و"المستثمرين " من الداخل والخارج، اضطرت لإجراء تغييرات تشريعية ولائحية واسعة النطاق، تسهيلاً وجذباً لهم. ومع استمرار الضغوط من المؤسسات الدولية والدول الغربية ومن رجال المال والأعمال و"المستثمرين" أنفسهم، لم تتمكن الدولة والقائمون عليها من الحفاظ على نقطة التوازن المعقولة بين المصلحة العامة المتمثلة فى حقوق الخزانة العامة في صورها المختلفة من ناحية، ومصالح رجال المال والأعمال و"المستثمرين" من ناحية أخرى، فمنحت المزايا والإعفاءات بصورة مبالغ فيها، بحيث تجاوزت هذه الإعفاءات الضريبية والجمركية حوالى 650 إلى 750 مليار جنيه منذ عام 1974 حتى عام 2011، حُرمت من نصفها على الأقل الخزانة العامة، فتقلصت الإيرادات العامة مقابل استمرار تزايد النفقات العامة، التى لم تعد كافية لتلبية متطلبات الحد الأدنى من الخدمات الأساسية والحيوية للمواطنين مثل التعليم والصحة والسكن والمياة النقية والصرف الصحى والبيئة...إلخ.

2- وتحت نفس الشعار "جذب الاستثمار والمستثمرين" جرى التنازل عن حقوق أساسية للدولة فى قطاعات حيوية مثل قطاع البترول والغاز الطبيعي، الذي خفضت فيه نسبة "الإتاواة" لصالح الدولة من 15 في المئة إلى 10 في المئة كما منح الشركاء الأجانب مزايا أضافية في بنود أخرى (مثل بند استرداد التكاليف، الخفض الضريبي، الحصة من الانتاج) بحيث أصبح نصيب الشريك الأجنبي من إنتاج الآبار يتراوح بين 60 الى 65 في المئة فى المتوسط، بينما المتوسط السائد فى الدول المنتجة الأخرى يتراوح بين 35 الى 45 في المئة فقط من إنتاج الآبار. وهكذا حرمنا الخزانة العامة من فرص تعظيم الفائض المحقق في قطاع البترول الذي يذهب إلى الخزانة العامة للدولة.

3- ومع السماح للقطاع الخاص بالدخول والمشاركة في شراء آبار للبترول (صلاح دياب، الخرافىي، محمد إبراهيم كامل، حسين سالم، قرطام وعشرات الآخرين)، وفي مجالات الإنتاج والتكرير، زادت الضغوط على متخذ القرار وصانع السياسة الاقتصادية من أجل زيادة أسعار المنتجات البترولية في السوق المحلية لتماثل نظيرتها في السوق العالمية، وذلك بهدف تعظيم أرباح هؤلاء المستثمرين على حساب المستهلكين المصريين، وقطاعات الإنتاج الأخرى وخصوصاً قطاع الكهرباء. فظهر للمرة الأولى فى تاريخ الموازنة العامة المصرية عام 2005-2006 ما سمي "دعم المشتقات البترولية"، فى عملية تلاعب محاسبي وتضليل للرأي العام لم يسبق لها مثيل.

زاد الدين المحلي من 15 مليار جنيه عام 1982 إلى 888 مليار جنيه عام 2010. ثم قفز في السنوات الثمانية التى أعقبت ثورة 25 يناير 2011 فبلغ حوالي 3.8 تريليون جنيه في نهاية عام 2018، وبلغ الدين الخارجي 96 مليار دولار، بما يشكل أكثر من 150 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

4- ويزداد الأمر سوءً، حينما نراجع النمط الاستثماري لأموال هيئة البترول وشركات البترول العامة المملوكة للدولة، حيث يتدنى العائد على هذه الاستثمارات من ناحية، والتوظيف الاستثماري للمحافظ المالية للهيئة والشركات بغرض خدمة أغراض ومصالح بعض قيادات قطاع البترول، وأحياناً كثيرة لأغراض عائلية وانتخابية. وقد أدى ذلك إلى فقدان جزء كبير من الأموال والفوائض كان من الممكن أن تضاف الى الخزانة العامة والموازنة العامة للدولة طوال العشرين عاماً الأخيرة.

5- وبالتطبيق على قطاع الغاز الطبيعي، الذى أدير بمنطق أقرب إلى إدارة العزب والإقطاعيات، سواء من خلال التعاقد مع "شركة شرق المتوسط" (لتسويق الغاز المصري إلى إسرائيل)، أو بخفض الأسعار مع الأردن وشركات مثل "غاز دي فرانس" و"يونيون فينوسيا" و"بريتش غاز" و"البوابة القابضة الكويتية"، مما أدى لخسارة مصر ما لا يقل عن 35.0 مليار دولار خلال الفترة التى بدأ بها التصدير لهؤلاء منذ عام 2002 حتى عام 2012.

6- وينطبق الأمر ذاته على قطاع الثروة المعدنية، الذى تُرك نهباً لجماعات مصالح من المقاولين بالتواطؤ مع القيادات بالمحليات والمحافظين فى كثير من المحافظات، مما أضاع على الدولة المصرية إيرادات هائلة ربما تتجاوز 25 مليار دولار منذ عام 1980 حتى يومنا هذا.

7- كما تنامت ظاهرة مالية غير مسبوقة في تاريخ العمل المالي في الدول الحديثة، وهي "الصناديق والحسابات الخاصة" التى بدأت بخجل بعد هزيمة حزيران/ يونيه عام 1967، ثم أخذت فى الإتساع بصورة سرطانية بعد عام 1979، بحيث زادت حالياً على ثمانية آلاف حساب وصندوق خاص (بل يقال عشرة آلاف)، تضم عشرات المليارات من الجنيهات ومن العملات الأجنبية الأخرى، دون أن يدرى عنها صانع السياسة الاقتصادية شيئاً. وهي تعززت يوماً بعد يوم، وصدرت التشريعات التي تتضمن إنشاء صناديق وحسابات خاصة فى جل الأجهزة والمصالح الحكومية. وتشير الدراسات الجادة بأن الفائض المتاح من هذه الصناديق والحسابات لا يقل عن 100 مليار جنيه، كما أن الحركة المالية لها (مصروفات وإيرادات) قد تقارب سنويا 300 مليار جنيه.

8- كما كان لصمت الحكومة والنظام والحكم على ظاهرة التهرب الضريبي المتفشية فى كافة قطاعات الممولين – عدا الموظفين والشركات والهيئات الحكومية – وتعايشها مع هذه الظاهرة، واللجوء كل فترة زمنية إلى التصالح وسياسة "عفا الله عما سلف"، وإسقاط القضايا ضد الممولين المتهربين، والتصالح تحت الشعار نفسه "تشجيع الاستثمار والمستثمرين"، وتقديم التنازلات الضريبية وتخفيض الوقع الضريبي... الى أن أصبح التهرب عادة تمارسها المشروعات الخاصة، وتغطيها كثير من مكاتب المحاسبين القانونيين الكبار والصغار.

III- السياسات المالية البديلة

والآن، ماذا نفعل للخروج من المأزق؟ وما السياسات المالية البديلة؟ إن شرط نجاح هذه السياسات المالية البديلة المقترحة هنا هو تكاملها معاً. وهي تقوم على مفهوم "الاعتماد على مواردنا الذاتية" والتعبئة التنموية لهذه الموارد.

يشمل تعظيم وتعبئة الإيرادات والموارد الإجراءات التالية:

• أولاً، إعادة النظر في النظام الضريبي الراهن

وهذا سواء من حيث الشرائح والوقع الضريبي، أو من زاوية المنظومة التحصيلية الراهنة ووسائل مكافحة التهرب الضريبي، وتشمل تعديل قانون الضرائب على الدخل الراهن رقم (91) لسنة 2005 وتعديلاته اللاحقة، وتغيير الشرائح الضريبية واتخاذ الإجراءات التالية:

1- إعفاء ضريبي للفئات ذات الدخل المساوي للحد الأدنى للأجر (بواقع 1200 جنيه شهرياً أي 14400جنيه سنوياً)، وهذا من شأنه رفع مستوى معيشة هذه الفئات الاجتماعية من ناحية، ولكنه بالمقابل سيؤدى إلى تخفيض الحصيلة الضريبية من بند الأجور والمرتبات بحوالى 8 إلى 10 مليار جنيه سنوياً.

2- وبالمقابل فإن ضريبة المهن غير التجارية (الأطباء، المهندسين، مكاتب المحامين..)، والذين يحققون دخولاً سنوية تزيد عن 100 مليار جنيه على الأقل، لا يدفعون ضريبياً سوى أقل من 500 مليون جنيه سنوياً، وهى نسبة متدنية جداً ولا تعبر عن حقيقة هذا النشاط. ومن هنا ضرورة تشديد العقوبات الجنائية والمعنوية على التهرب الضريبي لهذه الفئات، والحرمان من شغل الوظائف وتقلد المناصب، أو الترشح أو المشاركة فى الانتخابات العامة، ورفع كفاءة جهاز التحصيل، حتى لو استدعى الأمر إجراء تغييرات جوهرية فى المجموعات الوظيفية القائمة بالعمل، وتغيير أساليبه. ومن شأن زيادة الحصيلة الضريبية من هذه الفئة بأكثر من 10 مليارات جنيه (بافتراض وقع ضريبي حده الأقصى 20 في المئة).

3- تطبيق صارم لقانون الضريبة العقارية، وخصوصاً على المنتجعات السكنية الفاخرة Compounds والمنتجعات السياحية والشاليهات والفيلات والقصور (يزيد عددها عن 300 ألف قصر وفيلا وشاليه سياحي)، وتركيز جهد الدولة ومصلحة الضرائب على ذلك، مع تنظيم حملات إعلامية وإعلانية مكثفة في السنوات الخمس الأولى من التطبيق الصارم لهذه السياسة الضريبية، خصوصاً وأن حصيلة هذه الضريبة طوال السنوات السبعة الماضية لم تزد عن 368 مليون جنيه، ومن شأن هذا التطبيق توفير ما يتراوح بين 5 إلى 10 مليار جنيه كحصيلة إضافية.

4- من شأن تعديل سعر الضريبة على أرباح الشركات إلى 35 في المئة على الأقل، وعلى دخول الأفراد الذين يزيد دخلهم السنوي عن مليوني جنيه، مع تدرج في شرائح الضرائب، أن تجعل الحصيلة تزيد بأكثر من 60 مليار الى 150 مليار جنيه. ولا بد أن يكون ذلك مصحوباً بحملة إعلامية وإعلانية مكثفة، وعقوبات صارمة.

5- ومن جهة أخرى، فلا بد من مراجعة السياسات الجماركية والرسوم ومنافذ تهريب السلع عبر البوابات القانونية وغير القانونية بما فيها المناطق الحرة، فى ضوء قراءة صحيحة من عدد من خبراء التنمية ومعهد التخطيط القومي لاتفاقية "الغات" ومقتضياتها من ناحية، والمصلحة الوطنية وحقوق الخزانة العامة المصرية من ناحية أخرى. والمؤكد أن الفوضى السائدة الآن، وعمليات التهريب واسعة النطاق للسلع تحت عناوين شتى (ومنها المناطق الحرة الخاصة)، كل ذلك من شأنه تعظيم الحصيلة الجمركية بمقدار يتراوح بين 5 إلى 10 مليار جنيه إضافية.

6- تسهيل إجراءات الشهر العقاري وتوثيق الملكية، ووضع نسب ورسوم مناسبة لعمليات تسجيل ونقل الملكية العقارية من شأنها زيادة إقبال الملاك وأصحاب التصرفات العقارية على تسجيل ممتلكاتهم، وبالتالي زيادة الحصيلة بأكثر من 10مليار جنيه على الأقل وفقاً لتقديرات الخبراء والمتخصصين فى هذا المجال.

7- من جانب آخر، مراجعة وإعادة هيكلة قطاع البترول من حيث:1) مراجعة المحفظة الاستثمارية والمالية لهيئة البترول وشركات البترول العامة والمشتركة، ومدى سلامتها الاقتصادية وتحقيقها للمصالح الوطنية بعيداً عن المصالح الخاصة ببعض قيادات هذا القطاع. 2) مراجعة نظم التعاقد مع الشركاء الأجانب. 3) مراجعة التوسع الإداري وإنشاء الشركات غير المبرر الذى قام به الوزير الأسبق، محل المحاكمة سامح فهمي، وهيكلة القطاع مالياً ووظيفياً وإدارياً. 4) مراجعة التخفيض الذى تم في نسب الإتاوة لصالح الخزينة العامة. 5) التوقف عن عمليات خصخصة الحقول والآبار، وبيعها. ومن شأن هذه الإجراءات جميعها زيادة الحصيلة من هذا القطاع بحوالى 15 إلى 20 مليار جنيه مصري.

8- إعادة هيكلة قطاع الثروة المعدنية وفصله عن قطاع البترول، كالتالي:

- إنشاء وزارة مستقلة بالثروة المعدنية.

- عودة هيئة المساحة الجيولوجية بدورها واختصاصاتها السابقة والواضحة.

- إعداد خطة متكاملة لقطاع الثروة المعدنية لتصنيع المنتجات الخام، وحظر تصدير منتجات المناجم والمحاجر كمادة خام.

- وضع نظام للتعاقد مع المستثمرين المصريين والعرب والأجانب تكون قائمة على نظام للشراكة بين الحكومة وشركاتها العامة والشركاء من القطاع الخاص، بحيث لا تقل نسب المشاركة العامة والحكومية عن 50 في المئة، لضمان توجيه سياسات الاستثمار بما يلبي المصالح الوطنية المصرية، ويفيد الطرفين.

- إصدار قانون جديد للثروة المعدنية يعزز هذا التوجه، ولا ينتصر فقط – كما فى حالة القانون الجديد رقم (198) لسنة 2014 – للجباية والإتاوات وزيادة الرسوم، بل يؤكد على فكرة التصنيع المشترك.

- ضبط العلاقة بين عمل هذه الوزارة والمحليات، لإنهاء ظواهر الفساد الهائلة القائمة بين مقاولي المناجم والمحاجر والمحافظات عبر الصناديق والحسابات الخاصة.

- توسيع إطار خطة العمل لهذه الوزارة لتشمل كل الجغرافيا المصرية، وليس فقط المثلث الذهبي بالبحر الأحمر والصحراء الشرقية الجنوبية، بل أن تمتد إلى سيناء والصحراء الغربية.

- ربط الخطة الخمسية لهذا القطاع باحتياجات قطاع الصناعة وبالتنسيق الكامل بينهما.

من شأن هذه السياسة والإجراءات أن تؤدي من ناحية إلى توفير ما لا يقل عن 250 ألف فرصة عمل، وتحقيق فائض أعمال لصالح الخزانة العامة للدولة من ناحية ثانية وبصور مختلفة (إتاوات، رسوم تراخيص، تصنيع، تصدير) إلى حوالي 15 مليار جنيه فى السنة الأولى تزيد إلى 20 مليار جنيه لصالح الخزانة العامة للدولة.

من شأن إجراءات، ممكنة ومقترحة، تعظيم الحصيلة لصالح الخزانة العامة بأكثر من 100 مليار جنيه سنوياً، قابلة للزيادة إذا ما أحسنت إدارة هذا التغيير. كما أنها يمكن أن تخفض العجز في الموازنة العامة للدولة بأكثر من الثلثين تقريباً.

9- الصناديق والحسابات الخاصة: هناك ضرورات مالية واقتصادية لإنهاء هذه الظاهرة من خلال الإجراءات التالية: تشكل لجنة عُليا بقرار جمهوري لمراجعة وفحص وحصر هذه الصناديق والحسابات الخاصة، تكون مهمتها حصر وفحص كل الصناديق والحسابات الخاصة وبيان موجوداتها المالية والأسس القانونية لإنشائها.

من شأن هذه الإجراءات جميعها – متكاملة ومتوازية – تعظيم الحصيلة لصالح الخزانة العامة بأكثر من 100 مليار جنيه سنوياً، قابلة للزيادة إذا ما أحسنت إدارة هذا التغيير. كما أنها ستخفض العجز في الموازنة العامة للدولة بأكثر من الثلثين تقريباً.

• ثانياً، ضبط النفقات وترشيدها:

1- مراجعة نفقات الباب الثاني (شراء السلع والخدمات) التى تشكل ما نسبته 11 إلى 12 في المئة من إجمالي مصروفات الموازنة العامة سنوياً، وهي تشمل طيفاً واسعاً من النفقات (صيانة - قطع غيار - وقود - إنارة ومياه - نفقات دعاية وإعلانات واستقبالات - نفقات أجور ومكافآت المستشارين من خارج الهيئة الوظيفية..). ويمكن خفض هذا الباب بحوالي 7إلى 10 في المئة سنوياً ولمدة خمس سنوات قادمة، دون تأثير على فاعلية عمل الجهاز الإداري للدولة، بدلاً من الزيادة السنوية المعتادة فيه. وهذا من شأنه توفير حوالى 2.5 مليار إلى 3 مليار جنيه.

2- بالنسبة إلى الباب الثالث (الفوائد المحلية والأجنبية)، فمع مراجعة سياسات تمويل العجز فى الموازنة العامة للدولة (من خلال نظام ضريبي عادل، كما أشرنا)، وإعادة هيكلة بعض القطاعات الاقتصادية، لن تلجأ الحكومة إلى طرح أذون خزانة ولا سندات دين جديدة، وبالتالي سوف ينخفض المخصص المالي لتسديد فوائد الدين المحلي، وكذلك تكاليف خدمة الدين عموماً، ومن ثَمّ فمن المقدّر أن تنخفض تكاليف هذا الباب سنوياً، وخلال ثلاث سنوات من لحظة تطبيق هذه السياسات البديلة بحوالى 50 مليار جنيه سنوياً، بمجموع 150 مليار جنيه خلال الثلاث سنوات القادمة.

3- أما الباب الرابع (الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية)، ونظراً للتلاعب المحاسبي الذى تمّ فيما يُسمى دعم المشتقات البترولية منذ العام المالي 2005/2006 ، بحيث أصبح هذا الدعم لا يعبّر عن حقيقة الدعم، فإن مراجعة هذه السياسة والدعم الافتراضي للمشتقات البترولية والطاقة، من شأنه خفض هذا الرقم لحوالي النصف تقريباً مع ما يصاحبه ذلك من التخلص من التشوه في قطاع الكهرباء، الناتج عن هذه السياسة الضارة، وبالتبعية يتم خفض رقم العجز في الموازنة العامة للدولة بالقيمة نفسها، أي بما يقارب 50 مليار جنيه على الأقل.

4- وبالنسبة إلى الباب الخامس (المصروفات الأخرى)، التى تزيد فى المتوسط عن 10 في المئة من مصروفات الموازنة العامة للدولة سنوياً (أى أكثر من 30 مليار جنيه)، فبمراجعة تفاصيل بنوده يمكن توفير ما لا يقل عن ملياري جنيه من هذا الباب سنوياً.

5- أما الباب السادس (الاستثمارات أو ما أصبح يُسمى في التبويب الجديد للموازنة "شراء الأصول غيرالمالية")، فيمكن خفض بعض بنوده، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر بند "أبحاث ودراسات للمشروعات الاستثمارية" الذى كانت تستفيد منه بعض المكاتب الاستشارية المملوكة لبعض الوزراء وأقربائهم، وكذلك بند "وسائل الانتقال" وبند "مبان وإنشاءات".. كل هذه البنود يمكن توفير وتخفيض بعضها دون أن يؤثر ذلك سلباً على عمل الجهاز الحكومي ومشروعاته، ويقدر هذا الخفض بحوالى 3 مليار جنيه على الأقل.

6- أما الباب الأول (الأجور وتعويضات العاملين)، والذى بلغ فى مشروع موازنة عام 2016/2017 حوالى 228 مليار جنيه، ويشكل وحده حوالي 19 في المئة من إجمالي استخدامات الموازنة العامة للدولة لذلك العام، فإن هناك خللاً هيكلياً فى نمط إدارة هذا الباب - سواء قبل صدور قانون الخدمة المدنية أو بعده - حيث تستحوذ جهات وقطاعات ووزارات معينة على الحصة الأكبر منه، وهو ما يحتاج إلى إعادة توزيع مزاياه بصورة تحفظ الحقوق المتساوية لأصحاب المراكز القانونية والوظيفية المتكافئة، ودون مس بالمصالح المكتسبة للعاملين في الدولة، وبالتالى ليس من المتصور تخفيض هذا الباب..

وهكذا فان سياسة مالية رشيدة في مجال النفقات العامة يمكن أن تخفض هذه التكاليف بحوالي 108 مليار جنيه سنوياً، وهذا بخلاف الإضافات التى سترد إلى الموازنة العامة من خلال تصحيح السياسة الإيرادية عموماً، والضريبية خصوصاً.

IV- سياسات إدارة الدين العام البديلة

لا يمكن بناء سياسة فعالة ومنتجة لإدارة الدين العام للدولة، الخارجي منه أو الداخلي، إلا إذا توفرت ثلاثة عناصر أساسية لا غنى عنها هي:

الأولى - توفير مصادر مالية لسد الفجوة التمويلية – خصوصاً العجز في الموازنة العامة للدولة - من مصادر حقيقية، غير تضخمية وبدون إستدانة جديدة.

الثانية - إعادة النظر في هياكل الإنتاج المحلية، خصوصاً لقطاعات الإنتاج السلعي مثل الزراعة والصناعة والكهرباء والطاقة والبترول والغاز، بحيث تُسهم في تخفيف حدة العجز في الميزان التجارى عبر زيادة الصادرات وتخفيض وترشيد الواردات، وهو العجز الذي يؤدي غالباً إلى تفاقم واتساع الفجوة التمويلية فى ميزان المدفوعات، مما يضطر الحكومات إلى اللجوء إلى الحلول السهلة على المدى القصير، والعسيرة على المدى الطويل والمتوسط، أي الاستدانة من الداخل ومن الخارج.

الثالثة - تعظيم الادخار المحلي وتنويع مصادره، خصوصاً إذا توفرت مصادر كبيرة للفوائض المالية والمدخرات المتاحة للمصريين، وهي التي يجري تبديدها واستنزافها في مجالات استهلاكية وبذخية (مثل شراء القصور والفيلات والشاليهات السياحية والسكنية الفاخرة، والتى تجاوزت قيمتها أكثر من 415 مليار جنيه منذ عام 1980 حتى عام 2010)، مع غياب كامل للدولة وسياساتها التنموية بهدف إغراء الناس وأصحاب الفوائض على توظيف جزء من هذه الفوائض فى شراء أسهم وسندات فى مشروعات وشركات صناعية وزراعية وغيرها.

وبدون هذه العوامل الثلاثة، لا يمكن رسم سياسة جادة لإدارة الدين العام ، والتخلص من عبئه الضخم مالياً وسياسياً.

ويمكن بناء على كل ما سبق أن نحدد ملامح السياسة المطلوبة لإدارة الدين العام على النحو التالي:

1- التوقف عن الاقتراض من الخارج ومن الداخل، أو تخفيض نسب هذه القروض وفقاً لخطة معلنة وعلنية تجاه أسواق المال والرأي العام، من شأنها إعطاء مؤشرات للسوق الدولية والمحلية بمتانة الموقف الاقتصادي في ظل التغييرات الجديدة المقترحة.

2- إدارة النقد الأجنبي في البنوك المحلية المصرية، وفي البنك المركزي.

3- الدخول فى عملية تفاوضية مع الدائنين، خصوصاً لتلك الديون التي شابهها الفساد، من أجل إلغاء بعض هذه الديون، أو تحويلها إلى تمويل مشروعات في الاقتصاد المصري، أسوة بما جرى في تجارب سابقة.

4- استبدال الدين الأجنبي لبعض الدول الأوروبية بمشروعات داخل مصر، بهدف تقليص الضغط على الاحتياطي النقدي المصري من ناحية، وزيادة فرص التشغيل من ناحية أخرى.

5- إدارة جادة لمعركة استرداد الأموال المنهوبة والمهرّبة من مصر، خصوصاً تلك التى استولى عليها الرئيس المخلوع حسني مبارك وأسرته، والمودعة في بنوك أجنبية (في سويسرا وألمانيا وفرنسا وسواها..)، أو في مشروعات مشتركة مع أطراف في الخليج العربي.

.. هذا فصل من كتاب "انقاذ مصر.. السياسات الاقتصادية البديلة"، حتى لا يقال من الجهلة والمغرضين سواء من أنصار الحكومة أو مما يسمى المعارضة أنه ليس لدينا بدائل واقعية لإنقاذ مصر من السياسات الجارية حالياً.

مقالات من حمص

للكاتب نفسه