الجزائر: اللامرئيون في "ثورة الابتسامة"

هناك عزل وانعدام للتضامن مع الشبان الموقوفين خلال التظاهرات في الجزائر، وهم أبناء الطبقات التي "إذا تغداو ما يتعشّاوش"، ما يعني إقصاؤهم من التمثيل السياسي وسلبهم دورهم في هذه الحركة من قبل الشرائح الاجتماعية المُهَيمنة التي تطمح لقيادتها، والتي ترسم لها ملامح مشروع هو مشروع الطبقات المالكة.
2019-04-23

غنيّة موفّق

كاتبة وصحافية من الجزائر


شارك
| fr
لؤي كيالي - سوريا

عندما ذهبتُ إلى محكمة الجزائر، في شارع عبان رمضان، لرؤية عائلات المتظاهرين الموقوفين قبل جمعة المظاهرات الثامنة وخلالها وبعدها - في سياق ثورة من أجل المواطَنة، تبنّاها القضاة والمحامون والصحافيون ومناضلو حقوق الإنسان وكلُّ من تسابق للقاء "الشعب الرائع" - لم أكن أتصوّر للحظة واحدة أنني سأجد "الشعب" هناك وحيداً.

كان مركوناً خلف الحواجز، وراء المحكمة من جهة المستودع، منتظراً، وعيونه معلّقة بشاحنات الشرطة التي جلبت المحبوسين للمثول أمام وكيل الجمهورية. كان ذلك يوم الاثنين، 15 نيسان/ أبريل، يوم الجلسة.
أغلبية "الشعب" أمهاتٌ ماكثات في البيت أو عاملات نظافة، حزيناتٌ كما هي العادة أمام المحاكم، تماما مثل أمهات المختفين قسريا وأمهات ضحايا الإرهاب في أمس قريب. كُنَّ يكتشفن جغرافيا جديدة عبر رحلتهن في عالم الآلة البوليسية القضائية المظلم، ترافقهن بناتهن وعربات الأطفال. وإذا كان حضور الآباء معهن أكثر خفاء، فإن الإخوة هم أيضا كانوا هناك، إخوةُ القلب أو الدم، وكثيرٌ منهم كانوا يبحثون عن جار عمر كامل معتُقل.

كنت أتوقع أن أجد هناك صحافيين وكاميرات وسيلفيهات وأعلاماً كتلك التي رأيتها أمام البريد المركزي، لكني كُنتُ مخطئة، لم أجِد سوى صمت خمسين شخصاً يتهامسون، وهم في حيرة تامة من أمرهم. هل ما يحدث هنا خارج حراك 22 شباط/ فيفري؟ نعم فيما يبدو، وكأن الأمر مسألة خصوصية لا صلة لها بشيء سوى "القضاء العادي" وبمآسي عائلات تعاني الأمرّين، بين أروقة المحاكم وأولادها "المنحرفين".

كان "الشعب" وحيداً، مركوناً خلف الحواجز، وراء المحكمة من جهة المستودع، منتظراً وعيونه معلّقة بشاحنات الشرطة التي جلبت المحبوسين للمثول أمام وكيل الجمهورية. أغلبية "الشعب" أمهاتٌ ماكثات في البيت أو عاملات نظافة، حزيناتٌ كما هي العادة أمام المحاكم، تماما مثل أمهات المختفين قسرياً وأمهات ضحايا الإرهاب في أمس قريب.

لم أفهم بسرعة ماذا كُنّ ينتظرن في وقفتهن تلك بينما رجال الشرطة، بالزي الأزرق أو بالملابس المدنية، يراقبونهن عن كُثب وعلى وجوههم أقنعة مرحٍ كاذب، مردّدين على مسامعهنّ كلما حاولن الاقتراب، وهم يدفعونهن: "ما تتقلقوش، اللي ما دارو والو نطلقوهم" (لا تقلقوا الذين لم يرتكبوا شيئاً نطلق سراحهم (1) ). يا له من اعتراف: هناك إذاً أناس لم يقترفوا شيئاً ورغم ذلك اعتُقِلوا. وأولئك الذين لن يُطلق سراحهم، من سيحكم إذا ما كانوا مذنبين ؟ لم أكن أتوقع أن هذا التمييز بين المذنبين و"اللي ما دارو والو"، وهو تمييز تروِّجُ له دعاية الشرطة المُطَمْئِنَة هذه، سيفسر لي انعدام كل تضامن مع هؤلاء الجزائريين المغمورين الذين اصطيدوا اصطياداً خلال المسيرات.

ما كان هؤلاء اللامرئيون في انتظاره هو وصول شاحنات الشرطة البيضاء، آملين أن يروا ابنهم أو أخاهم أو صديقهم المعتُقلَ يوم الجمعة ينزل منها. بعضهم ظلّ دون أخبار عن قريبه أو ابنه أربعة أيام بعد الجمعة، أي ما يشبه أبداً كاملاً. حسب القانون، لا تتجاوز فترة الإيقاف تحت النظر 48 ساعة، ولا يمدّدُها سوى ضابط شرطة قضائية بعد استشارة وكيل الجمهورية. لكن من يكترث للقانون؟ اللامرئيون لم يكونوا أصلاً يعرفون إذا ما كان أبناؤهم سيمْثلون أمام وكيل الجمهورية اليوم أو غداً.

"نحب نشوف وليدي يخرج"

"بزّاف، سرقوا لنا أولادنا. علاش يديرو لنا هكا؟ جرحونا، قتلونا" (هذا كثير، سرقوا اولادنا، لماذا يفعلون بنا هذا؟ جرحونا، قتلونا).

في البداية كانت هذه الإمرأة العزباء، ذات الـ37 سنة، العاملة في مركز اتصالات، مترددة في الحديث معي. لم تفهم بالضبط من أكون ولا ماذا أريد : صحافية بدون كاميرا ولا هاتف ذكي؟ ألا يزال هذا النوع من الصحافيين موجوداً؟ ضف إلى ذلك أن التعاسة لا تهوى الكلام. نعيمة كانت تبحث بعينيها عن "خويا الصغير، قلبي". ومثل كل الأشخاص الحاضرين هناك، لم تقم بشيء سوى البحث عن أخيها منذ أن تمّ إيقافه، قبل ثلاثة أيام. في البداية بحثت عن مركز الشرطة الذي "رُمِيَ" فيه، دون وجه حق، وكان عليها أن تجد واسطة ("تعرفي البلاد هذي؟ كلشي بالمعرفة") حتى تحدد مكانه وتحصل على إذن بزيارته. اللقاء كان مُريعاً: "عندما رأى والدتي قال لي: علاش جبتيها؟ لم يكن يريد أن تراه في تلك الحالة، ثم صمَت، كان مكسوراً." تلك الأمهات المفجوعات من فرط حبّهن لأولادهن، الواقفات على شفا حفرة من الانهيار العصبي، كُنّ يصلين، وكفّارتُهن ألا يأكلن ولا يشربن ولا ينَمن. يبكينَ لا غير. مريضات بالسُكّري، وبالضغط ، باهرات مدهشات في معاناتهن تلك: "حبوا يخرجوا لنا قلبنا". الأخ الصغير يبلغ من العمر 24 سنة، بطّال رغم أنه يملك "حرفة بين يديه"، اعتُقل في تيليملي (حي في العاصمة الجزائر)، قبل أن تبدأ المظاهرة، فتّشوه، ثم أوقفوه في التو: لسوء حظه، كان الغبي قد نسى قطعة زطلة (حشيشة الكيف) صغيرة في جيبه، "لكنه ليس بلطجيا، أنا الذي أدفع له سجائره حتى لا يتسكع في الشارع". يا للحزن: ذلك الذي "لا يعرف شيئًا عن الحياة"، وبسبب ذرات مُتعة عابرة، قد يُحبَس حتى سنتين كاملتين إذا ما ارتأت العدالة أنه "فعلها".

تلك الأمهات المفجوعات من فرط حبّهن لأولادهن، الواقفات على شفا حفرة من الانهيار العصبي، كُنّ يصلين، وكفّارتُهن ألا يأكلن ولا يشربن ولا ينَمن. يبكينَ لا غير. مريضات بالسُكّري وبالضغط، باهرات مدهشات في معاناتهن تلك.

كل قصة تختلف عن سابقتها، لكنهنّ جميعاً يحكين التجارب نفسها عن عشوائية صروف الحياة وقلّة الحيلة. إحدى الأمهات تقول لي: "ما على بالي بوالو ضرك. في راسي ضرك حاجة واحدة: راني حابّة نشوف وليدي يخرج" (لا يوجد في رأسي الآن سوى فكرة واحدة: أن أرى ابني يخرج).

"القوائم ليست حاضرة بعد"

يسمعون بالخبر عن طريق أصدقاء الحومة (الحارة)، "ولدك شدوه" (اخذوه)، ولا واحدة منهن كانت مُحضّرة لهذا: "ما نعرفو والو على الحكايات هاذو". ليست عندهم أدنى معلومة عن مكان الاعتقال. كل ما يعرفونه أن الهواتف لم تعد تُجيب. قانونياً، الأشخاص الموقوفون لهم الحق في اتصال هاتفي وذلك لإخبار العائلة، (كما أن لهم الحق في زيارة طبية، لعل وعسى)، لكنه في الواقع حق مهضوم، فأول ما يقوم به رجال الشرطة على ما يبدو هو حجز هواتفهم.

شهاداتهم تُخبرنا عن حجم الاعتقالات: رسمياً، عددها وصل إلى 180 يوم الجمعة 12 نيسان/ أبريل. لكن أمام كل هذه الشهادات، لا يستبعد أن يكون أكبرَ بكثير. من مركز ال"كافينياك" إلى المركز الثامن بباب الواد والخامس، إلخ... رجال الشرطة فاض بهم الكيل، فالمخافر امتلأت، حتى يبدو أنهم "ما عادوا عارفين وين يحطّوا الناس هاذي الكل". وعلى الرغم أن البعض أوقِفوا في وسط الجزائر العاصمة إلا أنهم وجدوا نفسهم في عين طاية أو زرالدة حيث يُستقبلون دون أن يُستدَل على هويتهم لأن"القوائم ليست حاضرة بعد".

تُخبرني إحدى الأمهات (جاءت من ضاحية هراوة) أنها، وبفضل "المعرفة"، تمكّنت من رؤية بِكرها وعمره هو أيضا 24 سنة، ويعمل في ورشة خياطة: أوقفه فريق شرطة BRI على الطريق السريع بعد المظاهرة، ويا لسوء حظ من وقع بين أيديهم: "عينيه منتفخين، ضربوه، وكراعه (ساقه) ما على باليش واش صرا لها، ما كانش قادر يمشي، صدره تاني، ما كانش قادر يتنفس". ولتُثبت لهم أنه ليس بلطجياً، جاءتهم بكشفِ راتبه الشهري : "رفضوا الاطلاع عليه. الله يحفظنا."

وابن تلك المرأة الأخرى، الآتية من بير خادم، لا يتجاوز الـ 18 سنة، ويعمل هو أيضاً في ورشة بوسط الجزائر، كلّ أيام الأسبوع بما فيها يوم الجمعة: خرج في تيليملي لأجل الغداء مع عامل أخر، جَبليٌ يعيش في الورشة ولا يعود إلى منطقة القبائل سوى مرّات قليلة في السنة. وعندما أرادت الشرطة توقيفه، قاوَم وأراد الدفاع عن نفسه، لكنهم أخذوه. "حقّارين ، البوليس"، تقول لي المرأة. "اللي يكسروا مغطيين وجوههم، ما يدوهمش(لا يمسكوهم). ما يدّوا غير الضعاف. كي شفتو، المورال تاعو (حالته النفسية) كان في الأرض، دقيقة برك. وكي حب يهدر معايا، (حين اراد ان يكلمني) البوليسي قال له، بلّع، لو كان ما درت والو ما راكش هنا (اسكت، لو لم تفعل شيئا لما كنت هنا). واش دار وليدي؟ وليدي خرج باش يتظاهر، ما نكذبوش على ربي، على خاطر حنا رانا ضد النظام هذا، خرجنا ونزيدو نخرجو، بصّح راني خايفة يلصقوا له قضية، لو كان يشارعوه على خاطر مشى، ما نخافش".

وأخرى تسكن في بير توتة، ولدها عمره 24 سنة وبطّال، قام بدورات تكوينية لكنه لم يؤدّ الخدمة الوطنية، وكان من المفترض أن يعود إلى البيت في نهاية اليوم مع صديق يملك دراجة نارية. تمّ اعتقالهما، ولم تكن بحوزته أوراقُه الشخصية. لا مكان لهؤلاء الشباب، "وزيد فوق هاذا، يرموهم في الحبس. ما شفناش المحضر، ما على بالنا بوالو، لازمنا نديرو محامي، واش نقدرو نديرو؟" (نكلف محامي ما الذي نقدر عليه سوى ذلك؟).

أغلب هؤلاء الذين صاروا لامرئيين بطّالون، بائعو بَسطات، زوافرة (شغيلة)، عمال في النقل، وصغارٌ في السن. يأتون من الضواحي، من بير توتة وحجوط وتيبازة وزرالدة وباش جراح وعين بنيان. "غير الزوالية (الفقراء)" تقول لي إحدى الأمهات، وهيعاملة نظافة من بير توتة: "حبّست الخدمة، وما حبّستش البكا، ولدي صغير، ما عندوش 24 سنة، ويخدم روسوفو (قاطع تذاكر في النقل العام)، شدوه ف الغراند بوست (البريد المركزي)، بصّح قال لي باللّي ما دار والو (ما قمت بشيء)، وراني نستنى إذا يطلقوه ولا لا، ما على بالي بوالو، راني نستنى."

التقيت أيضًا بأخ أكبر لموقوف عمره 40 سنة، عسكري سابق استقال بعد 20 سنة خدمة بسبب اكتئاب شديد أصابه، "راهو مريض"، يقول الأخ، وحين بدأتْ الشرطة تضرب الناس في البريد المركزي، ضربوه هو أيضاً عدّة مرات على رأسه، فعندما رأيته وجدتُ عليه حدبةً حمراء كبيرة. دافع عن نفسه وضربهم"، وهذا ما تسميه رواية الشرطة "فعلها". وعندما أسألهم إذا ما فكروا في الاتصال بمحامٍ، يجيبون مرتبكين: "علاش (لماذا؟)، ما قالوا لنا والو"، أو "علاش، ما داروا والو، دوك يطلقوهم(ما فعلوا شيئاص والان سيطلقونهم)" أو : "بواش تحبي ناخد محامي، باش يوقف مرة وحدة ويقول لي أعطيني خمس ملايين، منين نجيبلو الدراهم؟".

من الفجر وحتى الثانية بعد الظهر، لا يتحركون، ينتظرون أن تُفتَح الجلسة، هذا إذا ما فُتِحتْ.

"حاضر"

نقص التضامن الذي لمسته، وعزلة هذه الطبقات الاجتماعية التي "إذا تغداو ما يتعشّاوش"، الطبقات المُقصاة اقتصادياً واجتماعياً والمتروكة وحدها تحت رحمة العدالة والشرطة - في حين أننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى نُحارب نظاماً استبدادياً أسلحته الأساسية العدالة والشرطة - كل هذا يساهم في إقصاء من صنف آخر: إقصاؤهم من التمثيل السياسي، وما أشبهه بسلبهم دورهم في هذه الحركة من طرف الشرائح الاجتماعية المُهَيمنة التي تطمح لقيادتها، ناسيةً أنهم هم من يمثلون "أكبر حزب في الجزائر"، وهم من منحوا الحراك قوتَه، ولغتَه الثورية، وأعطوه شعاراتهم وأهازيجهم وأغاني مقاومة اُلّفَت في ملاعبهم ("يتنحاو قاع"، "العصابة"، "لا كازا دل المرادية" - والمرادية هي مكان قصر الرئاسة، وقد أطلقت الاغنية فرقة "اولاد البهجة" انصار نادي "اتحاد العاصمة" لكرة القدم (2)، "الحرية ما تخوفناش"، "ما كانش الخامسة" اشارة للعهدة الخامسة التي كان بوتفيلقة يتحضّر لها) وهم، كطليعة تتقدمنا، من فتحوا لنا أبواب المدينة، فدلَف عبرها غيرهم بممارساتهم و"خارطة طريقهم" التي ترسم ملامح مشروع هو مشروعُ الطبقات المالكة.

ولتقتنع بذلك، يكفي أن تشاهد وصول الموقوفين: صغار العمر، يا إلهي، صغار وحلوين، لكنهم في حالة يرثى لها. هالات سوداء تحت عيونهم، مُنهكون، لا يقفون على دكة المتهمين بفخر، منكسو الرؤوس، يشعرون بالعار، لا يبتسمون حتى لأمهاتهم متحاشين نظراتهن الباكية التي تزيد ألمهم ألماً. ولا يجيلون في القاعة أبصارَهم، فأيام الإيقاف تحت النظر الأربعة، وما أُطعموا خلالها من خبز وسلطة، واحتقار وإهانة، كانت كافية لتُحوّل أجسادهم تلك التي كانت تحرّكُها المسيرات إلى أجساد مكسورة.

طُحنوا فلم يعد لهم من صوت سوى ذلك الذي يجيبون به عند سماع نداء اسمهم: "حاضر".

وبقدر ما كان الانتظار طويلا كانت الجلسة مستعجلة. العدالة التي تحكم باسم الشعب وفي حضور العام والخاص، لا يُمكننا سماعها، لا ميكروفون أمام القاضية، ومن المقاعد لا يمكننا سماع أي شيء، وكأننا في جلسة خاصة مُشفّرة بين القاضية والمحامين الأربعة الذين جاؤوا للدفاع عن 4 موقوفين، على الرغم أن عدد المتهمين الكلي كان 19.

تتناسى الشرائح الاجتماعية المُهَيمنة على الحركة والتي تطمح لقيادتها أن أبناء الطبقات المقصاة اجتماعياً واقتصادياً هم من يمثلون "أكبر حزب في الجزائر"، وهم من منحوا الحراك قوتَه ولغتَه الثورية، وأعطوه شعاراتهم وأهازيجهم وأغاني مقاوِِمة اُلّفَت في ملاعبهم، وهم، كطليعة تتقدمنا، من فتحوا لنا أبواب المدينة فدلَف عبرها غيرُهم بممارساتهم و"خارطة طريقهم"..

نفهم بالتقريب أن أولئك الذين "ما دارو والو" (لم يفعلوا شيئاً) سيُطلق سراحهم بنهاية الجلسة دون تلاوة أسمائهم، وأن من ستتلى أسماؤهم، أي أولئك الذين "باَلاك كاش ما دارو" (ربما فعلوا شيئاً) ، ستؤجل جلستهم حتى 29 نيسان /إبريل، وبدءاً من اليوم، وبصدور الأمر بحبسهم، سيقضون ليلتهم الأولى في السجن الحقيقي. "روحي اشري له سندويتش، تقول محامية هامسة لنعيمة، التي تنفذ الأمر مثل جندي صغير. تنهار إحدى الأمهات مُحدثة ضجة في القاعة، تسقط، فيستعجلها شرطي لتقوم وهو يطلب من الجميع إخلاءَ القاعة. الأمّهات الفرحات يُطلقن الزغاريد : أوف: العدالة أكّدت أن أولادهن ليسوا "عرايا". أما البقية، فسيتواصل كابوسهن. "يا الله ، كيف سنفعل الآن كي نجد محامياً؟"، يسأل صديقُ ذاك الذي "ما دار والو": "نحلف لك ما دار والو، كان رافد حطبة في حديدة صغيرة، حطبة علّق فيها علم دزاير، هذا واش كان عنده، أنا كنت حاضر" (أحلف لك انه لم يرتكب شيئا، اخذ قضيباً من لد وكانت به قطعة حديد علق بها علم الجزائر، هذا كل ما فعل وانا كنت حاضراً) .

وأمام هذه العدالة الاستعجالية والمرافعات السريعة، فما أن تفهم حتى ينقضي الوقت. محامية تتحدث إلى عائلات فقدت بوصلتها، تشرح لنا جميعاً ما حصل أمامنا: "القاضية كانت رحيمة، لأنها بتأجيل النظر في القضايا، ربما تكون قد أنقذتهم، فبعد 15 يوماً، ربما يُمكنها أن تقول إنهم دفعوا الثمن وأن تطلقَ سراحهم"، وربما لا: هل كان يجب حتماً إرسالهم إلى السجن بسبب قطعة زطلة صغيرة، أو حطبة، أو بطاقة تعريف نُسيت في البيت، وكأنهم مجرمون حقيقيون؟ ومن بين 82 شخصاً استمع وكيل الجمهورية إليهم، هناك من أطلقت القاضية سراحهم وهناك من لم يحضروا الجلسة، لأن وكيل الجمهورية أحالهم إلى قاضي التحقيق: هؤلاء أكثر عرضة للسجن، لأن أدلّة "صريحة" - فيديو أو أي شيء لإثبات تورطهم في أعمال عنف - سترمي بهم دون أدنى شك في خانة من "فعلوها".

هذه الاعتقالات، التي لا يجابهها سياسياً حراكٌ كان هؤلاء الشباب يظنون أنهم ينتمون إليه، ستُساهم في تحطيمه انطلاقاً من أطرافه. وعدم إدراك ذلك حريٌ بأن يُفقد من يدّعون ممارسة السياسة و"محاربة النظام" كلّ كرامة عندما تدافع رابطة حقوق إنسان ويدافع معارضون سياسيون ومناضلون مشهورون، وتدافع الصحافة عن الطلبة، معترضين على العنف الممارَس عليهم وعلى بعض النشطاء، إلخ.. في حين يسكتون عن هذه الاعتقالات الواسعة لشباب الأحياء الشعبية، والضواحي، والبطّالين - مردّدين أن "الحراك يدين العنف" مع أنهم غير مؤهلين للحديث باسمه – فهم هكذا كأنهم يتركون لنظر العدالة والشرطة مهمة تمييز العنف عما عداه. هذا الخطاب، إذ لا يبصر سوى نفسه في مرآته السلمية، يحكم على أصحابه بعدم رؤية ما يحدث حقيقةً بين فريق من المتظاهرين وقوات القمع، بل إنه يتبنى لغتها، وهو ما يعادل التواطؤ معها وإدانةَ ضحاياها دون تساؤل عن ظروف ظهور "العنف" ودون تعريفه بمنأى عن تعريف الشرطة له.

هذه الاعتقالات التي لا يجابهها سياسياً حراكٌ كان هؤلاء الشباب يظنون أنهم ينتمون إليه، ستُساهم في تحطيمه انطلاقاً من أطرافه. هذا يترك للمحاكم والشرطة مهمة تمييز العنف عما عداه. وخطاب "إدانة العنف" لا يبصر سوى نفسه ويتبنى لغة الشرطة، ما يعادل التواطؤ معها وإدانةَ ضحاياها دون تساؤل عن ظروف ظهور "العنف"، ودون تعريفه بمنأى عن تعريف الشرطة له.

باسم الأخلاق الحميدة، يقسم هذا الخطاب اللاسياسي المناضلين إلى فريقين اثنين: أولئك الذين لهم الحق في تضامننا وأولئك الذين لا حق لهم سوى "العدالة"، ودون محامين. ليس لنا أن نحدد من الجاني ومن البريء، لكن من حق حراكٍ يطمح إلى التغيير أن يتساءل عن الظروف التي يعتقل ويُحاكم فيها "متظاهروه". فمنذ متى هنالك عدالة في الجزائر؟ ينزع هذا الخطاب الشرعيةَ عن النضالات الشعبية بنزع صفة الإنسانية عنها وحجبها عن الأنظار وعدم الإقرار بدور "الشعب" في الحراك - وإن أُقر بقوته الثمينة فيه.

ما فحوى خطاب الحراك إذا لم يتضامن مع أكثرهم حرماناً سياسياً واجتماعياً، أولئك الذين لا كشفَ راتب شهريّ لهم ولا حزبَ ولا "أكتاف"، الذين تُسميهم أمهاتهم "الشعب الرقيق"؟ هل فحواه "تغيير كل شيء" بما لا يغير شيئاً في حياة "العرايا" الذين يُفسدون كليشيه "ثورة الابتسامة" كما يسميها من لا يعلمون.. أين الابتسامة؟

• ترجمه من الفرنسية صلاح باديس

_______________
1 - قام السفير العربي بتحويل الكلمات المذكورة بالعامية الجزائرية في النص الى الفصحى.
2 - إضافات وشروح من المحرر .

مقالات من الجزائر

الذهب الأزرق في الجزائر

يميز الجغرافيا الجزائرية التباين البالغ من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، حيث يتركز تدفق الأمطار في الحافة الشمالية الضيقة للبلاد بينما يكون في المناطق الداخلية ضعيفاً إلى شبه...

للكاتب نفسه

في الجزائر: لا خبر، لا قبر…

غياب الجسد هو الّذي يتيح للسلطات والحكومة والعسكريين والشرطة ومؤيديهم من السياسيين والمدنيين تأصيلَ وتدعيمَ غيابِ المختفين قسريّاً. ولذلك فمن الضروري، وفي المقام الأول، كشف هذا الجسد المحجوب، وهو ما...

الجزائر: الصحة في زمن كوفيد-19

لم تؤدِ الجائحة إلى انهيار النظام الصحي في الجزائر، لكنها، مع ذلك، كشفت بحدة هشاشته الكبيرة، وذلك عبر الاستراتيجيات المعتمدة بين الدولة والقوى الاجتماعية الجديدة، وبين القطاع العام والمنظومة الصحية...