حين ينفطر قلب الأمير السعودي

 تفاوتت ردود الفعل الرسمية في بلدان مجلس التعاون الخليجي بعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني في فيينا قبل أيام. فبينما سارعت سلطنة عُمان والكويت للترحيب بالاتفاق الأخير، تأخر بعض الوقت الترحيب المتحفظ من كل من البحرين والإمارات وقطر. أما السعودية فقد أعلنت عبر وكالة أنبائها الرسمية عن امتعاضها، مؤكدة أنها "تشارك دول 5+1 والمجتمع الدولي باستمرار العقوبات المفروضة على إيران بسبب
2015-07-22

عبد الهادي خلف

أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة لوند ـ السويد، من البحرين


شارك
سبهان آدم-سوريا

 تفاوتت ردود الفعل الرسمية في بلدان مجلس التعاون الخليجي بعد التوقيع على الاتفاق النووي الإيراني في فيينا قبل أيام. فبينما سارعت سلطنة عُمان والكويت للترحيب بالاتفاق الأخير، تأخر بعض الوقت الترحيب المتحفظ من كل من البحرين والإمارات وقطر. أما السعودية فقد أعلنت عبر وكالة أنبائها الرسمية عن امتعاضها، مؤكدة أنها "تشارك دول 5+1 والمجتمع الدولي باستمرار العقوبات المفروضة على إيران بسبب دعمها الإرهاب وانتهاكها الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالتسليح".
التفاوت بين الترحيب والتحفظ والامتعاض قد يعني بداية شرخ جدي وعلني في الموقف الخليجي تجاه إيران. ففيما تجد سلطنة عُمان والكويت (ودبي والشارقة) في الاتفاق بداية انتعاش اقتصادي تستفيد منه، تجد السعودية أن الاتفاق قد يعطي إيران قدرات إضافية لتحسين مواقعها في الخليج وخارجه. إلا أن السعودية تعي أنها لا تملك منفردة، أو ضمن مجموعة مجلس التعاون، خيارات جدية لمنع تنفيذ الاتفاق بعد إعلانه. فحتى فرنسا التي عوّلت السعودية عليها للتأثير في مسار الاتفاق أو تعطيله، وجدت نفسها تسير في الاتجاه الذي رسمته المفاوضات بين الطرفين الإيراني والأميركي.
ليس لدى حكام الخليج الممتعضين أو المتحفظين على الاتفاق من أوراق تعينهم على إقناع الموقعين وبقية المجتمع الدولي بضرورة إلغائه أو حتى تعديله بغرض فرض التزامات جديدة على أطرافه. إلا أن هذا لم يمنع المسؤولين السعوديين (والبحرينيين والقطريين والأمانة العامة لمجلس التعاون) من التعبير عن خشيتهم من ألاّ يلتزم الرئيس الأميركي بالتطمينات التي قدمها لهم في قمة كامب ديفيد في أيار/ مايو الماضي بأن لا يكون اتفاقه مع إيران على حساب أمنهم واستقرار بلدانهم. ولتحقيق ذلك، طلب الخليجيون في كامب ديفيد أن يتضمن الاتفاق مع إيران بجانب "التحقق بشكل صارم من إيقاف جهودها لحيازة قنبلة نووية.."، أن يؤكد على "وقف أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة..".
ينفطر القلب حين يخذلك حليفك الأقدم والأقوى،
أكثر التصريحات تعبيراً عن إحساس كبار العائلة الحاكمة في السعودية بما تعرضوا له من خذلان على يد حليفهم الإستراتيجي لأكثر من سبعة عقود، هو المقال الذي كتبه بندر بن سلطان (الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات السعودية، وسفير الرياض السابق في واشنطن) باللغة الإنكليزية وفي صياغة تخاطب القارئ الأميركي. بمرارة واضحة، يقتطف بندر ما قاله وزير الخارجية الأميركي هنري كيسينجر: "على أعداء أميركا أن يخشوا أميركا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر". وفي نهاية مقاله يشير بندر إلى أنهم، أي آل سعود، بعد التوكل على الله، سيعتمدون أيضاً "على تعزيز قدراتهم وتحليلهم للوضع بالتعاون مع الجميع فيما عدا حليفنا الأقدم والأقوى. ينفطر قلبي لقول ذلك، إلا أن الحقائق مُرَّة ولا يمكن تجاهلها". يعبر بندر بن سلطان في مقاله بصراحة أوضح عن مشاعر كبار العائلة الحاكمة في السعودية تجاه "الحليف الأقدم والأقوى" الذي خذلهم مرتين. أولاهما حين لم يقبل أن يكونوا طرفاً في مفاوضاته مع إيران. وثانيهما حين قَبِلَ حصْرَ إطار تلك المفاوضات في الموضوع النووي. يتوعد بندر بن سلطان، وهو منفطر القلب، بأن بلاده ستتعاون منذ الآن مع الجميع عدا الولايات المتحدة دفاعاً عن المصالح السعودية. ولكن الأمير يعرف أنّ وعيده بلا معنى، وهو غير ممكن وغير مسموح به. فسارع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، بعد نشر المقال، إلى لقاء نظيره الأميركي لتأكيد "ثبات العلاقة بين الجانبين وطابعها التاريخي والعمل لتعميق تعاونهما الأمني والإستراتيجي".

الصبي الغاضب

تتصرف السعودية منذ إعلان الاتفاق النووي مثل صبيٍ غاضب لأنه لم يحصل على العيدية التي كان يتمناها. ولهذا تتوالى التصريحات الرسمية المتوترة وغير العقلانية، التي تتردد أصداؤها في "التحليلات الإستراتيجية" وفيما تنشره الصحف وتبثه الإذاعات والقنوات الفضائية التابعة لها. بعض هذه التصريحات اعتبر أن الاتفاق النووي سيجعل المنطقة "أكثر خطورة" بسبب الموارد المالية التي ستحصل عليها إيران والتي ستمكّنها من "إشاعة الفوضى في المنطقة". تتكرر مثل هذه الأقوال في بقية بلدان الخليج ساعية لصياغة رد سعودي (وخليجي) يتضمن إشغال النظام الإيراني واستنزافه عن طريق دعم قوى المعارضة الإيرانية، بما فيها تلك المسلحة، وتحريك موضوع الأقليات العربية والبلوشية والأذرية في إيران. لم تتبلورخطوات جدية في هذا المجال، فيما عدا توفير دعم مالي سعودي وإماراتي للقاءات إعلامية ومؤتمرات عقدتها بعض أطراف المعارضة الإيرانية وممثلين للأقليات. إلا أن هذا لا يعني أن الطاقم الحاكم في السعودية لن يمضي قدماً في أنشطة يرى انها يمكن أن تستنزف النظام الإيراني.

الخيار النووي السعودي

منذ عشر سنوات على الأقل، تتكرر التصريحات الرسمية السعودية والتسريبات الإعلامية بخصوص تفعيل خيارها النووي. وبرغم أن السعودية لا تملك القدرات البشرية والتقنية اللازمة لتحقيق ذلك، إلا أن النيّة تستند إلى مذكرة تفاهم عقدتها مع الولايات المتحدة في 2008 لبناء برنامج نووي كجزء من البرنامج الأميركي "الذرّة من أجل السلام" (وهو البرنامج نفسه الذي شارك فيه شاه إيران عام 1957 ليدشن بذلك دخول بلاده النادي النووي). إلا أن السعودية، على عكس إيران في عهد الشاه وبعد سقوطه، لم تمضِ في تطوير قدراتها الذاتية، العلمية والتقنية في هذا المجال. ويعود ذلك في الأغلب لسببين تراكمت نتائجهما طيلة أربعة عقود لتصل بالسعودية وبقية بلدان مجلس التعاون إلى حالة الوهن التي تعاني منها الآن. السبب الأول أنها اعتبرت أن بلداً غنياً بالنفط والغاز ليس بحاجة إلى الطاقة النووية. والثاني إنها اعتبرت أن الحليف الأميركي سيوفر الحماية العسكرية اللازمة، بما في ذلك الغطاء النووي، من خلال شبكة القواعد العسكرية ومناطق الارتكاز التي يقيمها في مختلف بلدان المنطقة ومن ضمنها السعودية نفسها.
تتكرر الآن الإشارة إلى الخيار النووي، كما تتكرر التوقعات غير العقلانية لكيفية تفعيل هذا الخيار. فمن جهة يتخيل "محللون" أن القدرات النووية الباكستانية ستكون في متناول السعودية وقت ما تشاء. ويعتمد هذا التخيل على العلاقات المتينة والقديمة بين النظامين الباكستاني والسعودي، علاوة على ما يُقال عن تمويل السعودية البرنامج النووي الباكستاني. ومن جهة أخرى، يتخيل محللون آخرون أن السعودية تستطيع بِحُرِّ مالها أن تشتري التقنية النووية في أي وقت تشاء. ومؤخراً كتب أحد الإعلاميين القريبين من كبار العائلة الحاكمة السعودية، أن "السعودية تستطيع أن تشتري القنبلة النووية فتكون عندها بعد أسبوع، أو تستطيع إنتاجها في سنوات قليلة لأنها قادرة على استيراد الكوادر المطلوبة لتشغيل المفاعلات النووية".
لا يحتاج هذان التخيّلان وأمثالهما إلى وقفة مطوّلة. فالاتفاقيات الدولية والقيود الإستراتيجية التي تمنع انتشار السلاح النووي تَحُول دون حصول السعودية عليه من باكستان أو شرائها من غيرها. علاوة على ذلك، فباكستان لن تستطيع تلبية الطلب السعودي للأسباب الداخلية نفسها التي منعتها من إرسال جنودها للمشاركة في المغامرة السعودية في حرب اليمن. على أية حال، لا يستبعد أن يصدق القادة السعوديون أن ثمة سوقاً سوداء للسلاح النووي يستطيعون أن يشتروا منها ما يريدون من قنابل نووية! ولا يستبعد أن يصدقوا أنهم قادرون، وقت ما أرادوا، على استيراد الكوادر العلمية والتقنية التي تنتظر الإشارة كي تتوافد إلى السعودية لتركيب وتشغيل المفاعلات النووية. ألم يخطط قادة السعودية لحرب اليمن على أساس أنهم سيستدعون الجيشين المصري والباكستاني للقيام بالزحف على صنعاء؟

عقود الهدر

منذ الطفرة النفطية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، سادت في بلدان المنطقة عقلية "المشاريع الجاهزة" التي تعتمد على استيراد الاحتياجات بدلاً من تنمية القدرات الذاتية لتوفير تلك الاحتياجات. فبرغم القدرات المالية والسياسية التي وفرتها لها الطفرة النفطية، لم تعمل العوائل الحاكمة في الخليج على توسيع القاعدة المادية والبشرية لاقتصاد بلدانها وتعديد مصادر دخلها. وبشكل عام اعتمد الفهم السائد في هذه البلدان لعمليات التحديث على استسهال شراء المعدات والتقنيات واستيراد العنصر البشري اللازم لتشغيلها. فإن احتاجت البلاد إلى محطة تحلية مياه، يتم شراؤها من الشركة التي تصنِّعها والتعاقد معها لتشغيلها وصيانتها وتوفير قطع الغيار اللازم لإدامتها. ولا ينحصر الأمر في "التقنيات المعقدة" بل يمكن ملاحظته في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية في هذه البلدان، حيث توفر "بيوت الخبرة الغربية" المعدات والعنصر البشري اللازم لإدارتها. وما زالت مكاتب الاستشارات الغربية، مع شريكها الاسمي الذي ينتمي في الغالب إلى العائلة الحاكمة، هي القناة المفضلة لتقديم المشورة حول بناء مصنع تكرير أو إدارة متحف. لا يمكن تفسير هذه السلوكيات بغباء هذا الأمير أو "عقدة الأجنبي" عند ذاك الملك، بل لخشية العوائل الحاكمة من العواقب السياسة والاجتماعية لتوطين المعرفة التقنية وتمكين المواطنين عبرها.
ازداد عدد الجامعات في بلدان مجلس التعاون، وازدادت أعداد متخرجيها والمسجلين فيها كما ازدادت أعداد المبتعثين إلى مختلف الجامعات الأجنبية. وفي الفترة نفسها ازداد الاعتماد على المستشارين الغربيين في مراكز صنع القرار في بلدان الخليج . ولا تنحصر أسباب هذه المفارقة في القرار السياسي، وفي رغبة العوائل الحاكمة في عدم تمكين مواطنيها بتفضيل الأكاديميين الغربيين واستثناء الكفاءات من أصول عربية. وتشير استنتاجات عددٍ من الدراسات إلى دور الفساد في تحويل التعيين في المناصب العليا، بما فيها الأكاديمية في الجامعات المحلية إلى أدوات لضمان الولاء لسلطة العائلة الحاكمة. بالإضافة لذلك، أدى الخوف من الرقابة ومن بطش الأجهزة الأمنية، إلى هجرة الأدمغة وخفض نوعية وكفاءة التعليم الجامعي وتقليص دوره التنموي. وبعد أكثر من أربعة عقود من هدر الطاقات، لن يكون سهلاً تعويض الفرص التي خسرتها بلدان الخليج من دون تغييرات جذرية في الأنظمة السياسية.

عقلنة القرار السعودي/ الخليجي

بدلاً من البحث في الأسواق عن قنبلة ذرية للبيع، تحتاج العوائل الحاكمة في الخليج العربي، وفي مقدمها السعودية، إلى إعادة حساباتها الإقليمية التي اعتمدتها منذ سقوط الشاه في 1979. وتحتاج على الأخص الى الاقتناع بأن نهاية نظام الملالي في إيران ستتحقق عبر حرب تشنها الولايات المتحدة الأميركية على رأس تحالف يشارك فيه حكام الخليج، كما حصل مع 2003 في العراق. وتحتاج العوائل الحاكمة قبل ذلك إلى أن تتعامل مع الواقع الإقليمي بحكمة وبُعد نظر يتعدى المصالح الآنية للأجنحة المتنافسة في كل عائلة منها. ومن أبرز معطيات الواقع الإقليمي أن إيران قوة إقليمية، وأن وجودها هو حقيقة من حقائق التاريخ والجغرافيا التي لا يمكن تجاهلها اعتماداً على ما تقرره المصالح المتقلبة للحلفاء الغربيين.
بوسع السعودية، بمساعدة الكويت وسلطنة عُمان، وربما الولايات المتحدة نفسها، أن تستفيد من الفرصة التي يتيحها الاتفاق النووي لبدء تواصل جدي مع القيادة الإيرانية يقود إلى صفحة جديدة بدلا من التهديد باستمرار الاستنزاف المتبادَل للطاقات والموارد في سباقات التسلح العبثية، وفي تأجيج النزاعات الطائفية والحروب الأهلية. إلا أن الاستفادة من هذه الفرصة يتطلب مستوى من الحكمة يفوق ما أبدته حتى الآن قيادة المملكة السعودية، وخاصة خلال الأشهر الأخيرة.

للكاتب نفسه

خيبة م ب س الاقتصادية

كان النزاع المدمر على سوق النفط، ودور السعودية - وبخاصة محمد بن سلمان- في تأجيجه، مقامرة وحماقة في آن. فإن كانت السعودية تخسر 12 مليون دولار يومياً مقابل كل دولار...