"مصادفة" السودان و"25 يناير"

"الاجزاء تجهل مصادفاتها"، والأرجح بالتالي أن ما يجري في السودان - وتونس ومصر والعراق وفلسطين وسواها - تقاطعات وليس مصادفات، يؤكد تكرارها أنها ناطقة تقول أن هناك ما يجمع بين لحظات تبدو متفرقة، وما ينْظمها في "حلم" صار الانحياز إليه هو الفيصل. وصار هو بذاته نُظْمة قيمية، تقارع ثالوت الافقار والقمع والتيئيس الذي به يُحكم الناس.
2019-01-24

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
كاظم حيدر - العراق

هل هي مصادفة أصلاً؟ انتفاضة السودان، المستمرة منذ 19 كانون الاول/ ديسمبر، تصادف اليوم تاريخ "25 يناير" المصري الهائل، وتصادفت مع تاريخ حدث "14 جانفي" التونسي التي يؤرخ به لسقوط بن علي ورحيله عن السلطة وعن البلاد معاً. أو أن انتفاضة العراقيين ضد سوء المعيشة المريع في بلدهم المنهوب الذي بدأ بسبب انقطاع الكهرباء ثم تسمم المياه وانتهى الى سائر الفضائح.. تصادفت سنة بعد أخرى مع تاريخ ثورة 14 تموز/ يوليو.. وشباب غزة وشاباتها (وشيبها!) الذين نظموا على امتداد عام كل يوم جمعة تظاهرات على الشريط الفاصل، "تصادفت" (عمداً) مع احتفالات اسرائيل بعيدها السبعين.. وهكذا. "الاجزاء تجهل تصادفاتها"، والأرجح أنها تقاطعات وليس مصادفات، يؤكد تكرارها أنها ناطقة، تقول إن هناك ما يَجمع، بل وما يبدو في نهاية المطاف مستجيباً لنظام (بمعنى النُظْمة أو "السيستيم").

تعلن "النُظْمة" أنه لا يمكن إفقار الناس بهذا الشكل المخزي، نهبهم والتسلط عليهم وإحتقارهم، ثم توقع أن يسكتون ويستكينون للجبروت. تتكرر الظاهرة، ويسقط الكثير من الضحايا، ويدخل الكثيرون المعتقلات وتتدمر حيوات وعائلات، ويندم كثيرون ويجفلون، ويسألون "هل كان الأمر يستحق العناء".. ثم تعود شرارة ما إلى تفجير الناس، بعد أشهر أو سنوات. كما لا تتعلم الأنظمة أبداً من تجاربها، فتماطل وتسوِّف وتكذب ثم تقمع بشكل متصاعد، فيزداد الناس غضباً وتتسع دائرة المطالبات والتسييس.. وقد يؤدي القمع الشديد الى ضبط، ولكنه بالتأكيد مؤقت.

في السودان انتفاضات متوالية، كان آخرها - قبل هذه الجارية حالياً - انتفاضة 2013 ، وهي وإن كانت قد انحصرت بالخرطوم بالدرجة الاولى وكان وقودها التلامذة والطلاب كذلك بالدرجة الاولى، إلا انها دامت أشهراً وانتهت بإقرار البشير بالحاجة للإصلاح، فأنشأ اطاراً كان يُفترض أن يؤدي دوراً توافقياً في الشأن ("مبادرة الحوار الوطني" 2014) ووعد بعدم الترشح في 2015! تشكيلات "المبادرة" تلك - على ترهلها – هي التي تدعوه اليوم الى اختصار الدماء والتنحي، وتشكيل حكومة انتقالية فعلاً، بينما وَجد المهنيون ديناميات فعالة لاعادة بناء أطرهم التي تسلل اليها النظام وأفسدها، فكان "اتحاد المهنيين" الذي يضم "لجاناً مركزية" لمختلف القطاعات، وهو يلعب دوراً أساسياً في التحرك الواسع والممتد القائم حالياً.

مقالات ذات صلة

ثم إن ما يجري في السودان مهم بذاته وبتفاصيله اليومية كطريق يَحفر وجهته مع كل خطوة لتحقيق الغاية التي يطمح لها الناس، حتى وإنْ لم يحققوا إلا جزءاً منها. يُتداول في وصف المشهد السوداني اليوم أن "الافراد والبيوت والمطاعم والكفتريات والمخابز يوزعون الطعام والشراب.. يتبرعون بالدم.. يتبرعون بسعات نت (واي فاي)، يخبئون بمنازلهم من تطاردهم الشرطة دون خوف من اقتحامها من قبل قوات الأمن وميليشيات الظل التابعة للبشير وعلي عثمان. الصيدليات تقدم الاودية مجاناً. يهرع الاطباء والممرضين للمستشفيات لمعالجة المصابين، وآخرون يفتحون عياداتهم الخاصة ومستشفياتهم لعلاج المصابين مجاناً، تهرع طواقم الاسعافات الطبية بسياراتها لأماكن التظاهر".

لحظات التسامي تلك لا تُمحى، وهي تعجن بخصائصها من يشارك بها. وكما في في كل مكان، فهي تؤدي الى دخول مئات الوف البشر الى "السياسة"، ليس بوصفها خزعبلات ومسالك شريرة ونفعية كما صارت توحي به الكلمة حين تَرد، بل بوصفها حق الناس بادارة مختلف شؤون حياتهم كما يتمنون.. وهو طموح لم ينفك البشر عن الحلم بالوصول اليه على الرغم من الصعوبات ومختلف أشكال الخيبات. وقد صار الانحياز إليه هو الفيصل. وصار هو بذاته نُظْمة قيمية، تقارع ثالوت الافقار والقمع والتيئيس الذي به يُحكَم الناس. وهذا ليس شعراً ولا رومنسية بل نراه عبر أمثلة تتجدد، آخرها خطاب أم الشهيد الطبيب الشاب بابكر عبد الحميد، الذي اغتيل وهو يُسعف جرحى الاصابات، فهز البلاد وحمل البشير على الكذب العلني المبتذل، راوياً خرافة ان الشيوعيين شكلوا فرق اغتيالات واطلاق نار على المتظاهرين لتاجيج الغضب (والطبيب كان في المشفى ولم يكن في مظاهرة، والشهود كثر).

... "الاجزاء تجهل مصادفاتها"!

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...