السودان يمشي وحيداً في انتظار تسوية كبرى

يجد النظام نفسه وحيداً في مواجهة أزمات مستديمه، وقد خلى جيبه من أي حلول، كما يقف الحراك المناوئ وحيداً بدون دعم يذكر حتى ولو على المستوى المعنوي. وحالة توازن الضعف هذه يمكن أن تستمر بما يضع مستقبل البلاد في دائرة الخطر، ما لم يتم التوافق على تسوية كبرى تفتح الباب أمام تغيير سياسي جذري.
2019-01-01

السر سيد أحمد

كاتب صحافي من السودان مختصّ بقضايا النفط


شارك
أنس حمصي - سوريا

يحتل يوم التاسع عشر من كانون الاول/ ديسمبر موقعاً مهماً لدى السودانيين، اذ هو التاريخ الذي إتفق فيه السودانيون بمختلف قواهم السياسية على إعلان الاستقلال من داخل البرلمان. وبعد أثني عشر يوماً أصبح السودان في الاول من كانون الثاني/ يناير 1956 دولة مستقلة ذات سيادة.

كما أن الزعيم المعارض الصادق المهدي اختار يوم التاسع عشر من كانون الاول/ ديسمبر للعودة الى السودان بعد منفى أختياري قارب العام. قبلها بثلاثة أيام، قام الرئيس السوداني عمر البشير بزيارة مفاجئة الى سوريا. وعلى الرغم من ان الزيارة أقتصرت على بضع ساعات، الا انها كانت رسالة مهمة عن تطورات تشهدها منطقة الشرق الآوسط، على رأسها فتح الباب أمام إعادة تأهيل نظام الرئيس السوري بعد مقاطعة عربية إستغرقت عدة سنوات. وبالفعل لم تمضِ سوى أحد عشر يوماً إلا وأعلنت الامارات عن أعادة فتح سفارتها في دمشق. على أن الأهم من هذا كله بروز المحور الروسي – الايراني، والى حد ما معهما التركي، كاللاعب الرئيسي في تشكيل مسار الاحداث في المنطقة، وضعاً في الحسبان الانسحاب الامريكي العسكري المفاجيء من سوريا وبدون ترتيبات مع الحلفاء المحليين من الاكراد، وبكل تبعات هذا الانسحاب السياسية على صورة الولايات المتحدة وتحالفاتها الدولية.

كان يمكن تقييم زيارة البشير في إطار قراءة سياسية إستباقية لمآلات الأوضاع في المنطقة كان يأمل بتجييرها لصالحه، لولا أن التاسع عشر من كانون الاول/ ديسمبر شهد تفجر مظاهرات مناوئة له ولحكمه هي الأعنف منذ اندلاع أحداث أيلول/ سبتمبر 2013 التي وقعت بسبب رفع الدعم عن الوقود، وقتل فيها 185 شخصاً وفق منظمة العفو الدولية.

اشتداد الضائقة الاقتصادية

استحكمت حلقات الضائقة الاقتصادية هذه المرة وظهرت في صفوف الخبز والوقود الطويلة، بل وفي الشح في السيولة بعد تحديد سقف لسحب الاموال من البنوك، في مسعى للسيطرة على إستمرار تدهور الجنيه السوداني تجاه الدولار، الامر الذي أدى الى عزوف الناس عموماً ورجال الاعمال خصوصاً عن أيداع أموالهم في البنوك، هذا الى جانب التضخم الذي وصلت نسبته الى 70 في المئة. ومع ضعف موارد الدولة، تزايد الاتجاه الى رفع الدعم عن السلع نهائياً، بل قال البشير انه لا يمكن إجراء إصلاح إقتصادي بدون رفع الدعم.

بدء المظاهرات في الاقاليم كان تطوراً ملفتاً للنظر إذ كان قصب السبق معقوداً للخرطوم في العادة. إلا أن النقطة الأكثر أهمية هي أن تبدأ المظاهرات في المناطق الشمالية والشرقية من السودان، وهي المناطق التي ينحدر منها معظم قادة النظام بمن فيهم البشير نفسه.

كانت تصريحات الفريق محمد حميدتي ملفتة، وهو قائد "قوات الدعم السريع"، الميليشيا التي تتبع رئاسة الجمهورية، إذ نأى بنفسه وقواته عن الإشتراك بعمليات قمع المتظاهرين، بل وأحدث نقلة في خطابه بالإشارة الى ان "المخربين والمندسين" هم من تاجروا في قوت الناس.

يوم التاسع عشر ذاك، لم يكن في مدينة عطبرة في شمال السودان كيس واحد من الدقيق المدعوم، الأمر الذي فتح الباب أمام الدقيق التجاري ومعه تصاعد في الأسعار. عطبرة تعتبر من الاماكن التقليدية للحركة العمالية واليسارية، اذ كانت تحتضن رئاسة السكة الحديد. تفجرت المظاهرات في رد فعلي تلقائي على إرتفاع سعر الخبز، وإنتشرت الى مناطق في ولاية نهر النيل نفسها وكذلك في الولاية الشمالية المجاورة، وخاصة عاصمتها دنقلا التي شهدت حرق مقر حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم. ثم إمتدت التظاهرات الى شرق ووسط السودان قبل أن تصل الى الخرطوم ويبرز تجمع للمهنيين رافعاً سقف المطالب بالدعوة الى رحيل البشير عن السلطة والدعوة الى موكب في 25 من الشهر نفسه تأكيداً للبعد الجماهيري للتحرك.

بدء المظاهرات في الأقاليم كان تطوراً ملفتاً للنظر إذ كان قصب السبق معقوداً للخرطوم في العادة. إلا أن النقطة الأكثر أهمية هي أن تبدأ المظاهرات في المناطق الشمالية والشرقية من السودان، وهي المناطق التي ينحدر منها معظم قادة النظام بمن فيهم البشير نفسه. كما ان المنطقة شهدت إنفاقاً كبيراً على مشروعات التنمية والخدمات، أبرزها سد مروى الذي يوفر الجزء الاكبر من الطاقة الكهربائية في البلاد، وما لحق به من مشروعات طرق وجسور.

ويلاحظ أيضاً أن مناطق دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان، وهي التي حملت السلاح ضد النظام، لم تشهد مثل تلك التظاهرات المناوئة في الغالب، كما ان الحكومة أتبعت نهجاً مختلفاً قليلاً اذ ورد في تصريحات رسمية عديدة إعتراف بالضائقة الاقتصادية وبحق الناس في التعبير، مع تحذير من التخريب. وكان ملفتاً في هذا الاطار تصريحات الفريق محمد حميدتي قائد "قوات الدعم السريع"، وهي ميليشيا تتبع لرئاسة الجمهورية، اذ نأى بنفسه وقواته عن أي تحركات للقيام بعمليات قمع للمتظاهرين، بل وأحدث نقلة في خطابه بالإشارة الى أن "المخربين والمندسين" هم من تاجروا في قوت الناس، كما أن الاجهزة الأمنية مارست قدراً من ضبط النفس فلم تقم بإعتقالات احترازيه في البداية، كما كان يحصل عادة.

الغياب السياسي

الغائب الاكبر في كل ما جرى كان العمل السياسي في جانبي أهل الحكم ومعارضيهم. فحرق مقرات حزب المؤتمر الوطني كان مؤشراً بالغ الدلالة على الغياب السياسي الكامل للحزب الذي يدعي وجود الملايين في عضويته، بينما لم ينجح في إدارة أي نشاط سياسي للتبشير بسياسات الحكومة والدفاع عنها وسط قواعده وبين الناس عموماً، الأمر الذي أدى الى أن يصبح التعامل الحكومي مع المظاهرات أمنياً في المقام الأول، لا يصحبه أي نشاط سياسي ملحوظ.

أما المعارضة فقد أخذها انطلاق المظاهرات على حين غرة، ويظهر هذا في الخطاب الذي القاه المهدي بعد وصوله الخرطوم، اذ كان تصالحياً وبدا منقطعاً عن أجواء الغليان الشعبي الذي أنطلقت شرارته في يوم وصوله. وخطابه ذاك أصاب بعض مناصريه بالاحباط ودفعهم الى الاعلان عن إستقالتهم من "حزب الامة" الذي يتزعمه المهدي. تتمثل المعارضة في تجمعين رئيسيين: "نداء السودان" الذي يتزعمه المهدي ويضم أحزاباً سياسية وحركات متمردة داخل وخارج السودان، وهي تنخرط في مفاوضات مع النظام بوساطة أفريقية ورعاية دولية. أما التجمع الثاني فل"قوى الإجماع الوطني" وعمادها الحزب الشيوعي والبعثيين والناصريين، وهو يرفض أي تعامل مع النظام ويتهم القوى الأخرى بأنها تسعى الى ترتيب هبوط ناعم له.

كل هذه القوى، التي تمثل القيادة السياسية التقليدية، لم تكن في البداية طرفاً في إشعال التحركات المناوئة للنظام، على الرغم من أنها حاولت اللحاق به وإيجاد مظلة تضمها كلها معاً لتوفير قيادة لهذا الحراك الجماهيري، ربما بأمل تكرار تجربة انتفاضتي تشرين الاول/ أكتوبر 1964 ونيسان/ إبريل 1985 اللتين أطاحتا بحكمين عسكريين. أحد الإشكالات الرئيسية أن كل القيادات السياسية التقليدية المعارضة تقريباً بلغت العقد السابع من عمرها في الوقت الذي يمثل الشباب الغالبية العظمى من وقود هذا الحراك الجماهيري.

ما يجري حالياً عزز من الحالة الهامشية التي يعيشها السودان. فلا المشاركة بقوات في حرب اليمن ولا خطوته الاستباقية بمد اليد الى سوريا الأسد نجحتا في لفت الانظار إليه، ومن ثَمّ معاونته في وقت حاجته الكبيرة الى الدعم المالي الذي يمكن أن يعينه على العبور من مشكلته الاقتصادية بدون دفع ثمن سياسي باهظ لانه لا يزال في نظر الكثيرين نظاماً إسلامياً. وبالمقابل فإن الحراك الجماهيري الذي شهدته البلاد لا يبدو مرحَّباً به في الاقليم إذ يعيد الى الأذهان ذكريات "الربيع العربي" التي يود الكثيرون قلب صفحتها.

كل القوى المعارضة على تنوعها، وهي التي تمثل القيادة السياسية التقليدية، لم تكن في البداية طرفاً في إشعال التحركات المناوئة للنظام، على الرغم من أنها حاولت اللحاق به، وإيجاد مظلة تضمها معاً لتوفير قيادة لهذا الحراك الجماهيري، ربما بأمل تكرار تجربة انتفاضتي تشرين الاول/ أكتوبر 1964 ونيسان/ إبريل 1985 اللتين أطاحتا بحكمين عسكريين.

وهكذا يجد النظام نفسه وحيداً في مواجهة أزمات مستديمه، وقد خلى جيبه من أي حلول، كما يقف الحراك المناوئ وحيداً بدون دعم يذكر حتى ولو على المستوى المعنوي. وحالة توازن الضعف هذه يمكن أن تستمر بما يضع مستقبل البلاد في دائرة الخطر ما لم يتم التوافق على تسوية كبرى تفتح الباب أمام تغيير سياسي جذري، أحد عناصره مجموعات من الاسلاميين التي وجدت مشروعها يتحطم على صخرة الواقع على الرغم من حكمها لثلاثة عقود، وفضلت النأي بنفسها والوقوف على الرصيف، خاصة بوجود دعوات الإقصاء والإقتصاص منها من قبل بعض الاطراف المعارضة.

ويبقى السؤال عن إمكانية حدوث مثل هذا الاختراق السياسي لتلال الشك والتجارب المريرة إستشرافاً لمستقبل جديد.

مقالات من السودان

للكاتب نفسه

أوبك وعودة مختلفة لأجواء السبعينات

في الخامس من الشهر الجاري، تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمعت "أوبك بلس" وقررت تقليص الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً، وهي الخطوة التي استفزت واشنطن ودفعت ببايدن إلى التهديد بأنه ستكون لها...