اليسار بالمغرب: سؤال الفعالية

لطخ سمعة اليسار تبنّي الخصخصة، من خلال موافقة أطراف منه، شاركت في "حكومة التناوب" آنذاك، على بيع حصص مؤسسات أو مقاولات حكومية بأكملها في صفقات غير مسبوقة في تاريخ البلد، فما عاد المغاربة يرون في اليساري سوى ذاك "المنتفع" الذي يبيع الأوهام لمآرب نفعية ليس إلا.
2018-12-19

سعيد ولفقير

كاتب وصحافي من المغرب


شارك
| en
غرافيتي من اليمن لمراد السبيع

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

يُعزى الواقع المتشظي لليسار المغربي إلى غياب الرؤية أو المشروع الجامع. في ما مضى، كان اليساريون يملكون خطاباً اجتماعياً استطاع، على الرغم من نواقصه العديدة، أن يمس وتر الطبقات الشعبية والفقيرة من خلال الأحداث والأزمات الاقتصادية والاجتماعية (سنوات الجفاف، سياسة التقويم الهيكلي، ثورة "الكوميرا" 1981...) لينشر أفكاره وسط الناس.

كثيراً ما يعلِّق اليسار المغربي فشله على مشجب القمع الذي لحق به. ولا يمكن إنكار الضربات الموجعة من طرف السلطة الحاكمة، من اعتقالات وعسف وتنكيل وخطف وتخوين وشيطنة... لكن خطاب المظلومية لا يمكنه لوحده أن يفسر الفشل.

تجربة "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" – الحزب اليساري التاريخي والرئيس - صارت توصف بـ"المُمخزنة"(1) (والمقصود هنا أنه متصل بالسلطة نفعياً أو احتواء). فعلى الرغم من التاريخ النضالي للعديد من الكيانات السياسية اليسارية، ووقوفها ضد كل أشكال الاستبداد والفساد ومطالبتها بصوت عالٍ بالتغيير والتنوير، إلا أن مشاركتها في ما يعرف بـ"حكومة التناوب" أواخر تسعينات القرن الماضي غيّر هذه الصورة. وهي سقطت في مشاكل وأخطاء وتجاوزات، بل وصل الأمر لحد تورط بعض وزرائها وسياسييها في ملفات الفساد. ولكن الأسوء من ذلك كان تبنيها للخصخصة، من خلال موافقتها آنذاك على بيع حصص مؤسسات أو مقاولات حكومية بأكملها في صفقات غير مسبوقة في تاريخ البلد. قرارات مثل هذه لطخت سمعة اليسار وما عاد المغاربة يرون في اليساري سوى ذاك "المنتفع" الذي يبيع الأوهام لمآرب نفعية ليس إلا.

مقالات ذات صلة

"لا يتحمل اليسار مسؤلية هذه الأخطاء". هكذا يبرّئ بعض اليساريين أنفسهم من هذه التجربة السياسية، لدرجة أنهم باتوا يصنفون حزبي"الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" و"التقدم والاشتراكية" خارج البيت اليساري. فهذه برأيهم أحزاب "مخزنية" و"إدارية". الكثيرون يرون في تلك التجربة بداية انزلاق اليسار المغربي نحو الهاوية. أما "حزب النهج الديمقراطي" ذو التوجه اليساري الراديكالي فاعتبرها"استسلاماً" تاماً للمخزن إذ كان التناوب مخزني بحت، أي استمراراً وتقوية للمخزن، ما ساعد هذا الاخير على تجاوزالأزمة الاقتصادية العميقة التي سماها الملك السابق ب"خطر السكتة القلبية". وقد "حدث ذلك على حساب الفئات المفقرة والكادحة بالأساس، وسهل الانتقال السلس للسلطة من ملك إلى آخر" (2).

اليسار والمَلكية البرلمانية

منذ بدء حراك "20 فبراير" 2011 ، تعالت أصوات المعارضة عالياً تنادي بإسقاط الفساد والاستبداد. في هذه المرحلة، بدأ اليسار الممثل في أحزاب "فيدرالية اليسار الديمقراطي" بالمطالبة بملكية برلمانية، وذلك ضمن نسق المنظومة السياسية الحالية. وهو يشارك في الاستحقاقات الانتخابية التي لا تحترم – عادة - الشروط الديمقراطية والشفافية، فيتم التلاعب بها وفق توازنات ومصالح وحسابات ترضي السلطة الحاكمة. "راه مبغيناش نحيدو الملك، بغينا نقويوه أكثر" (نحن لا نريد أن نزيح الملك، بل نرغب في تقويته أكثر). هكذا يرد "عمر بلافريج" على من يشكك في نوايا الطرح الذي يدعو إليه تكتله السياسي، إذ يؤكد على أن الملكية البرلمانية ستُبقي للملك هيبته وتضمن لحمة واستقرار البلد. ويستطرد: "لكن المنطق يقتضي أن من يحكم يجب أن يُحاسب، ونحن لا نريد ولا يمكن أن نحاسب الملك، نريد أن تظل له رمزيته وهيبته، أما الإجراءات العادية فيجب أن تتكفل بها الحكومة، حتى إذا لم تعجب المغاربة يمكنهم الاحتجاج عليها، ومعاقبتها بالتصويت ضدها، أما إذا لم يعجبهم قرار اتخذه الملك فماذا عساهم يفعلون؟" (3).

"راه مبغيناش نحيدو الملك، بغينا نقويوه أكثر" (نحن لا نريد أن نزيح الملك، بل نرغب في تقويته أكثر). هكذا يرد عمر بلافريج على من يشكك بنوايا الطرح الذي يدعو إليه تكتله السياسي، إذ يؤكد على أن الملكية البرلمانية ستُبقي للملك هيبته وتضمن لحمة واستقرار البلد.

من ناحيته، يتحاشى تيار اليسار الجذري ممثلاً في "حزب النهج الديمقراطي" رفع شعار "الملكية البرلمانية"، فالمسألة بالنسبة إليه أكبر من طرح نقاش حول هذا الموضوع. وهو يرى بأن النضال فريضة على كل مغربي بغية القطيعة مع كل أشكال "الاقطاعية" و"الرأسمالية المتوحشة" ومن أجل إرساء نظام برلماني يحكمه دستور "شعبي" تصيغه جمعية تأسيسية منتخبة. كما أن الحزب له موقف نابع من طروحات فلسفية وفكرية حول المَلكية الذي ينظر إليها على أنها تكريس للبطريركية "الرجعية" والاستبداد والتحكم.

اليسار والحراكات الجهوية

منذ الأيام الأولى لحراك الريف بالمغرب ،بعد مقتل بائع السمك في تشرين الاول/ اكتوبر 2016، بادرت "فيدرالية اليسار الديمقراطي" كما "حزب النهج الديمقراطي" ومنظمات وهيئات محسوبة على اليسار إلى دعم ومساندة متظاهري "الحُسيمة" عبر اصدار بيانات وبلاغات شديدة اللهجة ضد التجاوزات والانتهاكات الحقوقية الممارَسة على المحتجين، أو عبر تنظيم مسيرات ووقفات لدعم مطالب الريفيين. وفي تلك الفترة، لم تتوانَ الأمينة العامة لحزب "الاشتراكي الموحد"، نبيلة منيب، عن انتقاد الحكومة ومهاجمتها لما وصفته "ضعفاً" في التجاوب مع مطالب الشارع، وأيضاً على خلفية اصدار بلاغ الأغلبية الحكومية الذي اتهم بعض نشطاء الريف بالانفصالية وخيانة الوطن.

تحركات النشطاء والحقوقيين المحسوبين على اليسار جاءت مبكرة، إذ قاموا بتأسيس "اللجنة الوطنية لدعم الحراك بالريف"، وكانت أولى خطواتها تنظيم قافلة تضامنية وطنية "لدعم حراك الريف ومطالبه العادلة"، على أن تنطلق من كل مناطق البلاد صوب مدينة "الحُسيمة". إلا أن هذه القافلة لم تُنظَّم لعدم التجاوب الكافي. فشل هذه الخطوة لم يمنع ناشطين يساريين آخرين من أخذ زمام المبادرة من جديد. فالناشط اليساري والمعتقل السياسي السابق صلاح الوديع، دعا في حزيران/ يونيو من العام المنصرم إلى الذهاب لمدينة الحُسيمة صحبة شخصيات مدنية وحقوقية، بهدف لقاء نشطاء الحراك، وكمحاولة منه للتوسط بينهم وبين السلطات للوصول إلى حل للأزمة. لكن المحتجين رفضوا التجاوب مع هذه المبادرة، وطالبوا آنذاك بإطلاق سراح المعتقلين أولاً. وموقف "فيدرالية اليسار الديمقراطي"، على الرغم من اقتصاره على مطالب اقتصادية واجتماعية، إلا أنه كان استثماراً في كسب تعاطف الناس، ووظفته الفدرالية في نقد مفاهيم كـ"النيوليبيرالية"، وللمطالبة بـ"توزيع الثروة" و"العدالة الاجتماعية" ولطرح شعارات أخرى مثل "الحرية" و"الكرامة الانسانية". بيد أن انتقادات وجهت لتحركات هذا الفريق، معتبرة أنها مجرد استعراض للعضلات أمام الحكومة، ومحاولة لتشكيل قاعدة انتخابية تمهيداً للاستحقاقات المقبلة، إذ هو لم ينل سوى مقعدين داخل البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة عام 2016.

لم يقف اليسار الراديكالي صامتاً ازاء ما وقع من انتفاضات واحتجاجات في فترة ما بعد 2011، إذ حضر في الشارع في مسيرات ووقفات و دعا إليها. البيانات والبلاغات كانت شديدة اللهجة تجاه السلطة ممثلة ب"المخزن"، واتهمتها بالوقوف وراء الانتهاكات والعسف البوليسي وعدم الاستجابة لمطالب المحتجين. يصرخ هذا التوجه بأعلى صوته بشكل صريح في وجه النظام السياسي، لكن يسار البرلمان أو ما يسمى باليسار الاصلاحي ("فيدرالية اليسار الديمقراطي") يكتفي بتوجيه أصابع الاتهام دوماً للحكومة أكثر من تجروئه على ملامسة ما يعرف اعلامياً بـ"الدولة العميقة".

وجد اليسار المعارض في حراك الريف وسواه من الحراكات الجهوية، فرصة للخروج الى الشارع ونوعاً من"التعويض" بعد خفوت وهج"حركة 20 فبراير. بيد أن انتقادات وجهت لهذا الموقف ممثلاً بـ"فيدرالية اليسار الديمقراطي"، على اعتبار أنه مجرد استعراض للعضلات أمام الحكومة ومحاولة منه لتشكيل قاعدة انتخابية تمهيداً للاستحقاقات المقبلة، إذ لم ينل سوى مقعدين داخل البرلمان خلال الانتخابات الأخيرة عام 2016.

وعلى ذلك فالفحص السوسيولوجي لا يقع على فروق صارخة في المنشأ الاجتماعي/ الطبقي للتيارين. وليس كل المنتمين لأحزاب الفيدرالية يشبهون عمر بلافريج، المديني البرجوازي. بل هي تضم في أغلبها شخصيات منتمية للطبقة المتوسطة، من أساتذة جامعيين وباحثين وكتاب ومثقفين ومهندسين وأطباء، ومقاولين... في حين تستقطب تنظيمات اليسار الجذري في الأغلب طلاب الجامعات والخريجين الجامعيين من العاطلين عن العمل والنشطاء السياسيين والجمعويين والمدنيين والفنانين والمثقفين المستقلين...

الاختلاف يكمن في محاولة أحزاب الفيدرالية استغلال وجودها ضمن نسق المؤسسات الرسمية، بينما يحاول اليسار الراديكالي أن يكسب بعض الدوائر النقابية والمهنية (الكونفدرالية الديمقراطية للشغل مثلاً) والجمعيات المدينية والحقوقية (الجمعية المغربية لحقوق الانسان، الحركتين النسوية والأمازيغية). ولكن اليسار الراديكالي، على الرغم من دفاعه المستميت عن الطبقات الهشة وجغرافيا الهامش، إلا أن حضوره على المستوى الجماهيري، التنظيمي والايديولوجي، يكاد يكون منعدماً في هذه المناطق. وبشكل ما، فالخلاف بين المنظومتين اليساريتين يقوم على الصعيدين الثقافي والفكري.

والفروقات تظهر على المستوى السياسي، إذ يعارض اليسار الجذري بشدة سياسات السلطة الحالية ممثلة في "المخزن" و يراها حائلا دون تحقيق مطالب الحرية و العدالة الاجتماعية و الكرامة الانسانية، بينما لا يجد اليسار الاصلاحي ممثَلا في أحزاب فيدرالية اليسار الديمقراطي أي غضاضة في معارضة السلطة ضمن نسقها.

اليسار والاسلام السياسي: خصام وود

في البداية، وفي سنوات النضال الفبرايري أيام ربيع الاحتجاجات، كانت العلاقة بين اليساريين و"جماعة العدل الاحسان" ذات التوجه الاسلامي جيدة وظهر توافق على مستوى الخطط والأهداف والشعارات والتحركات في الشارع. دامت الرفقة شهوراً معدودة أنتجت حراكاً شعبياً انضمت إليه مختلف الحساسيات المجتمعية والنقابية والمستقلة والفئوية، ولقي استحساناً شعبياً على العموم.

في شهر كانون الأول / ديسمبر عام 2011 ،انسحبت جماعة العدل والاحسان من حركة 20 فبراير. وبدأ الفراق، ومعه تبادل الاتهامات بين اليسار والاسلاميين: نشطاء يساريون إتهموا "العدليين" بـ"خيانة" العهد باعتبارهم خرجوا من معترك الشارع فجأة ومن دون مبررات أو تفسيرات. وهو قرار اكتنفه الكثير من الغموض، وأسال مداد الصحافة وأثار الكثير من التساؤلات والتحليلات. الجماعة من ناحيتها بررت الخروج بكونه جاء لأن"الحراك استنفد كل ما لديه من طاقات وشعارات بعد أن تمّ تعديل الدستور"، وأجريت انتخابات مبكرة فاز فيها "إخوانهم" في "حزب العدالة والتنمية".

وفي بداية 2018، أعلن الفراق من طرف واحد. ففي كانون الثاني / يناير الماضي، جمع رفاق الحزب "الاشتراكي الموحد" شمْلهم في مؤتمرهم الرابع ودعوا إليه كل الهيئات والكيانات السياسية والحزبية من المعارضة والحكومة على حد سواء، باستثناء الشخصيات ذات المرجعية الاسلامية. وهي خطوة تدل على طلاقٍ مُثقل بشحنة نقد وهجوم على "حزب العدالة والتنمية" بسبب "إجهازه على مكتسبات الطبقة الشعبية"، و"الانخراط في مسلسل الفساد دون محاربته". الحزب المنتمي لفيدرالية اليسار الديمقراطي لم يكتفِ بانتقاد إسلاميي الحكومة، بل حَمّل - بشكل غير صريح – "جماعة العدل والاحسان" مسئولية فشل حركة 20 فبراير بسبب ما اعتبره "سيادة شعارات إسلاموية ومتطرفة في مسيراتها، وغياب شعار مركزي يكثّف المشروع الديمقراطي" (4).

لا يمكن تفسير حالة الطلاق بين يساريي المعارضة البرلمانية ("فيدرالية اليسار الديمقراطي") والاسلاميين، بحصرها في أحداث معينة كمغادرة "العدليين" للشارع الفبرايري، أو حتى بسبب تخلي إسلاميي الحكومة عن شعاراتهم بمحاربة الفساد. الخلاف في الاساس ايديولوجي. فهؤلاء اليساريون يرون بأن تلك الحركات تقف حجر عثرة أمام بناء مجتمعات تقدمية تسود فيها الحرية والمساواة بين الجنسين، ولا وجود لأي تقارب حول مفهوم "دولة الخلافة" (الذي تتبناه "جماعة العدل و الاحسان")، إالذي يرونه "استبداداً جديداً، لا يختلف عن الاستبداد المخزني".

على الرغم من التاريخ النضالي للعديد من الكيانات السياسية اليسارية، ووقوفها ضد كل أشكال الاستبداد والفساد ومطالبتها بصوت عالٍ بالتغيير والتنوير، إلا أن مشاركتها في ما عرف بـ"حكومة التناوب" أواخر تسعينات القرن الماضي غيّر هذه الصورة. وهي سقطت في أخطاء وتجاوزات، بل وصل الأمر لحد تورط بعض وزرائها وسياسييها في ملفات الفساد. ولكن الأسوأ من ذلك كان تبنيها للخصخصة.

في البداية، رحب اليسار الاصلاحي ممثلاً بالحزب "الاشتراكي الموحد" (الذي صار فيما بعد عضواً في فيدرالية اليسار الديمقراطي التي نشأت في 2014) بالعلاقة مع "العدليين"، لكن هذا التفاهم سرعان ما تحول بعد شهور الى صراع حول المطالب الجوهرية، فبينما طالب اليسار الاصلاحي بإرساء مَلكية برلمانية، شدد العدليون على مطلب "دستور شعبي ديمقراطي" الذي تمّ تأويله على أنه تعبير ضمني عن شعار "إسقاط النظام".

في المقابل، لا يظهر بأن الخلاف مطروح بين الجماعة ويساريي النهج الديمقراطي، إذ ما زالت أبواب الحوار والتواصل مفتوحة بين الطرفين. وما يجمع بين هذين التنظيمين، رفضهما المشاركة في كل الاستحقاقات الانتخابية رفضاً تاماً. فبحسبهما، لا ديمقراطية حقيقية وفعلية في ظل منظومة سياسية تتحكم بشكل كامل باللعبة الانتخابية. الاختلاف بين الكيانين من حيث الايديولوجيا والمرجعية الفكرية لم يمنعهما من التوافق، على الأقل على أرضية محاربة الفساد والاستبداد وارساء العدالة الاجتماعية في البلد، وهما متقاربان من حيث تجذر تصورهما للنظام السياسي المنشود، والذي لن يتحقق إلا بالتغيير. ف"النهج الديمقراطي" ينشد تغيير النظام الحالي "المخزني" واستبداله بنظام اشتراكي يقضي على التمييز الطبقي، أما "جماعة العدل والاحسان" فتسعى الى تأسيس الخلافة وبعث الروح فيها من جديد.

وفي محاولة لملمة الأشلاء..

في عام 2014، قرر "الرفاق" أن يجتمعوا على طاولة واحدة لتأسيس تكتل سياسي يضم أحزاباً يسارية وهي"الاشتراكي الموحد" و"الطليعة الديمقراطي الاشتراكي" و"المؤتمر الاتحادي". لم ينضم "حزب النهج الديمقراطي" لهذا التكتل بسبب الخلاف على طبيعة الحكم وشكله. فأحزاب الفيدرالية متفقة على الملكية البرلمانية، في حين يرى "النهج الديمقراطي" أن شكل الحكم يجب أن يصدر عن إرادة الشعب عبر دستور ديمقراطي.

لماذا تأسست"الفيدرالية"؟ للاندماج ولم شمل العائلة اليسارية (وفق ما تطمح إليه)، لكن ايضاً لتكون "طريقاً ثالثاً" معارضاً لما وصفته بـ"التكتلات الأصولية"، سواء كانت سلطة المخزن أو الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية مثل "حزب العدالة و التنمية". ويُنظر الى هذا الخطاب باعتباره اقصائياً للاسلاميين، لكن الفيديرالية تدافع عن طرحها بناء على معطيات مسجلة وليس كعداءٍ ايديولوجي لطرف معين، إذ تشدد على أن بنكيران وإخوانه دمروا مكتسبات المغاربة في العيش الكريم واستهدفوا حقوقهم الطبيعية وتبنوا سياسات نيوليبرالية (تحرير أسعار الوقود و المواد الأساسية، الاتجاه نحو خصخصة القطاعات ذات الطابع الاجتماعي...).

تعي الفيدرالية صعوبة الاندماج بين قوى اليسار لأن الأمر بحسبها يحتاج لاختبارات قاسية حول النقد الذاتي، كما أن "الرفاق" مدعوون لتقليص حجم الأنا المتضخمة لدى البعض منهم والقبول بالأمرالواقع الذي تحكمه قوى وتوازنات ومصالح.. ويرون في مواقف اليسار الجذري طوباوية غير واقعية ومجرد تسجيل للاحتجاج.

بعد التأسيس، جاءت مرحلة المحك: الانتخابات. حصلت الفيدرالية على مقعدين في البرلمان خلال استحقاق عام 2016. كان ذلك أقل من التوقعات. عمر بلافريج ومصطفى الشناوي هما من يمثلان الفيدرالية داخل البرلمان. منذ اليوم الأول لافتتاح جلسات البرلمان رفضا أن يلبسا الطربوش الأحمر وإعتبراه تجسيدا للسلطوية "المخزنية"، وهو تصرف رآه البعض مجرد "موقف اعلامي". شهور بعد ذلك، بدأ النائبان يصوتان بـ"لا" ويناقشان كل صغيرة وكبيرة: يعترضان على ميزانية القصر والجيش ويطالبان بمناقشة ميزانيتهما، وبإلغاء معاشات البرلمانيين وكل أشكال الريع الاقتصادي واعادة النظر في قانون الضرائب، وتعزيز مكانة التعليم العام والخدمات الاجتماعية العمومية عبر الرفع من ميزانيتها وتحسينها.

كل هذا جميل. وهو متسق مع مواقف يساريي الثمانينات والتسعينات من القرن السالف، وكذلك مع إسلاميي الألفية الثالثة عندما كانوا في المعارضة البرلمانية ("العدالة والتنمية" قبل تسلمها الحكومة). هناك مواطن سأل عمر بلافريج (5): "ما الضامن على التزامكم بمبادئكم ؟" فأجاب "الملكية البرلمانية". طبعا ليس إرساء المَلكية البرلمانية لوحدها ضامناً، بل أيضا مقاومة الفساد وجيوبه أو الانسحاب بوجه أبيض ومشرف. من يقدر على ذلك؟ لا أحد مِن بين مَن خاض التجارب السياسية في مواقع مؤسسات السلطة أقدم على هذه الخطوة.

وبالمجمل، تبقى تجربة اليسار المعارض، سواء هؤلاء الذين يقفون داخل المؤسسات مثل أحزاب "فيدرالية اليسار الديمقراطي"، أو الآخرين الذي قرروا البقاء خارجها مثل "حزب النهج الديمقراطي"، محملة بالكثير من البيانات التنديدية ومن الاحتجاج.. مع ندرة في تقديم مشروع يساري حداثي يلامس انشغالات وانتظارات المغاربة بمختلف حساسيتهم وتوجهاتهم. في الوقت الراهن لم يُحدِث هذا التيار الفرق أو التغيير المنشود، وهو مدعو على كل حال لتجديد دمائه وتشبيب نخبه والقطع مع البنية التنظيمية الهرمية وكل أشكال البيروقراطية التي ستبقى حائلاً دون اكتسابه للفعالية.

____________________

1- في اشارة الى "المخزن" وهو الدولة/المركز.

2- حسب رأي القيادي بـ"حزب النهج الديمقراطي"، عبد الله الحريف.

3- حديث صحفي مع أحد المواقع المحلية.

4- بيان صادر من الحزب الاشتراكي الموحد يوم 20 فبراير عام 2016.

5- خلال لقاء تواصلي نظمه القيادي بفيدرالية اليسار الديمقراطي عمر بلافريج بمدينة أكادير خلال شهر حزيران /يونيو 2018: "أنتم تعطون وعودا مثل الأحزاب الأخرى.. ما الضامن على الالتزام بمبادئكم ؟" يسأل مواطن.-"تنفيذ الملكية البرلمانية وحدها الضامن". يجيب بلافريج.

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه