الاحتجاج و "الإصلاح" في العراق

مرّ نحو شهرين والاحتجاجات في العراق ضدّ فساد الأحزاب السياسيّة الحاكمة لا يخبو فتيلها. ومر نحو شهر على إعلان حزمة الإصلاحات التي أعدّها رئيس مجلس الوزراء ووافق عليها البرلمان. بيد أن الوضع ما يزال على حاله، ورطانة التصريحات السياسية تجتر ثنائية الفساد والإصلاح، فيما يزداد الشارع غضباً وتحدّياً. أما الأحزاب السياسية فتبحث عن مخرج للأزمة التي زجّت نفسها بها، وهي لا تبدو متصالحة حتّى مع
2015-09-10

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
سندس عبد الهادي-العراق

مرّ نحو شهرين والاحتجاجات في العراق ضدّ فساد الأحزاب السياسيّة الحاكمة لا يخبو فتيلها. ومر نحو شهر على إعلان حزمة الإصلاحات التي أعدّها رئيس مجلس الوزراء ووافق عليها البرلمان. بيد أن الوضع ما يزال على حاله، ورطانة التصريحات السياسية تجتر ثنائية الفساد والإصلاح، فيما يزداد الشارع غضباً وتحدّياً. أما الأحزاب السياسية فتبحث عن مخرج للأزمة التي زجّت نفسها بها، وهي لا تبدو متصالحة حتّى مع "إصلاحات" العبادي الخجولة، وأخذت تفكّر بكيفية التخلّص من.. التظاهرات.

خيمة ومَلاحدة وسكاكين

في التظاهرات التي فجرها غياب التيّار الكهربائي المتزامن مع قيظ لاهب تجاوز 50 درجة، وفقدت فيها البصرة أوّل قتيل بين صفوف المتظاهرين، تَفوّق العراقيون على أنفسهم في ابتداع الشعارات وعرضها وترديدها. لم يحدث أن كان الشارع ساخراً هكذا من قبل، وكان اليأس مطبقاً عليه، وقد تحوّل هذا اليأس اليوم إلى طاقة احتجاج وغضب كبيرين. السخرية من كلّ شيء في ساحات التظاهرات، حملتها لافتات مُبتكرة، سهلة ومفهومة وموجعة للساسة. لسَعتها فبانت في انتقاد الأحزاب جميعها لشعارات المتظاهرين التي لم توفّر أحداً من القيادات السياسية. وظهر ذلك في البيانات أو خلال اللقاءات التلفزيونية. وما زال شعار "باسم الدين باكونه (سرقونا) الحرامية" يحتّل المركز الأول من حيث درجة إزعاج الساسة. قادة الفصائل المسلّحة لا يخفون بغضهم لهذا الشعار، ويروّجون أن "جهات خارجية" تقف وراء إطلاقه وتسانده من أجل "إسقاط العمليّة السياسية" و "عَلْمنَة" العراق، بينما ذهب رئيس المجلس الأعلى الإسلامي عمّار الحكيم إلى أبعد من ذلك حين وصف "بعض" المتظاهرين بأنهم "يسيئون" إلى المرجعية الدينية. أما زعيم ائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، الذي صدّر حزبه أكثر الوجوه طائفيّة، فكان حانقاً على "استهداف المتظاهرين لرموز سياسية ودينية"، وهو ما جعله يُكرّر أن هناك "مؤامرة" تقف خلف كل هذا الغضب.
كانت هذه الانتقادات مقدّمات لقادم أكثر وطأة. فهي في حقيقة أمرها محض تحريض على المتظاهرين بوصفهم "مَلاحدة" و "متهتكين" بل وحتّى "بعثيين"! ولم تكن مصادفة والحال هذه أن تُمارِس ميليشيات الأحزاب السياسية الحاكمة العُنف تجاههم في ثلاث محافظات هي البصرة والنجف وبابل، بغاية الانقضاض عليهم وتفريقهم. في البصرة، أقصى جنوب العراق، مزّق مسلحون "مجهولون" خيمة الاعتصام وكسروا محتوياتها على رؤوس المعتصمين أمام مجلس المحافظة، وضربوا اثنين منهم نقلا إلى المستشفى، ورافق ذلك توزيع منشورات تهدّد المتظاهرين، واصفة إياهم بـ "الملحدين"، في خطوة لتخويفهم وإضعافهم. إلا أن التحدّي زاد، فسرعان ما أعاد المعتصمون نصب الخيمة وتجمّع عدد أكبر من الشبّان تحتها، ونشروا العلم العراقي الذي يحمل كلمات "الله أكبر" على الشارع ليقطعوا به الطريق، وبهذا زادوا التحدّي أمام "المجهولين" والحكومة المحليّة وحافظوا على مكانهم. أما في بابل، فقد اعتصم الشبّان في الشارع بلا خيمة وتحت أشعة الشمس، واستمروا أسابيع على هذه الحال، بالمقابل بقي شعار "جمعة ورا جمعة.. الفاسد نطلعه" يتردّد في تسع محافظات عراقية، في تحدٍّ لأحزاب السلطة على الاستمرار في النزول إلى الشوارع والحقّ في التظاهر.

أوليغارشية أم أوليغارشيات؟

في الواقع، لم يكن كل هذا الغضب - والإصرار عليه - نتيجة اكتشاف العراقيين وحدهم فساد الأحزاب وتحويل البلاد إلى محميّات صغيرة لعوائل تلك الأحزاب ومعارفها وتجارها. وإنما ساعدت تلك الأحزاب بنفسها على إغضاب الناس وفجرت بغض المجتمع للسلطة التي تحكمهم عبر التخندق الطائفي السياسي والتخندق المضاد، وحروب "التسقيط" التي خاضتها أحزاب السلطة بعضها ضدّ بعض. فقد نُشرت طيلة الفترة الماضية التهم والحقائق على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، حتّى فقدت جميع الأحزاب مصداقيتها لدى العراقيين، أي أنّها دفنت نفسها بأيديها، وفقدت ما تبقّى لها من رصيد لدى العراقيين الغاضبين على مصير بلدهم الغني بثرواته والذي يعيش حالة فقر تقترب من تلك التي تعيشها أفقر بلدان العالم. هكذا تَحوّل العراق من سلطة أوليغارشية "متفاهمة" تضم الأحزاب وتحكم المجتمع، إلى أوليغارشيات متصارعة في ما بينها على السلطة والحيز العام والعقود الحكومية الفاسدة.. كل هذا تكفل بإيصال العمليّة السياسية في البلاد إلى الأفق المغلق.
ينفي الكاتب نصير غدير أن يكون نظام الحكم في عراق اليوم ديموقراطياً بعدما بلغ الصراع بين الأحزاب على نهب المال والنفوذ والسلطة، مبلغ تقاسم المناطق الجغرافيّة وتأسيس الفصائل المسلّحة. يُمكن اليوم أن يحدّد العراقي مناطق نفوذ وسيطرة الأحزاب داخل المدن بسهولة كاملة، وأن يحدّد أيضاً الخلافات الرئيسية بين الأحزاب وأسبابها، ولا تبتعد بعض تلك الخلافات عن تسلّم مركز حكومي مهم يدرّ على الحزب "أرباحاً" من المال العام. وهنا يحضر السؤال حول مآل نظام الحكم في العراق بعدما أصبح حكم أقلية تحتكر المال من دون أن تقدّم أدنى الخدمات؟ ما هو شكل تحوله؟ يجيب غدير انه صار "كلِبتوقراطي" Kleptocraty- حكم اللصوص - الذي يراكم الأموال على حساب المجتمع، وهو من أبشع الأنظمة التي يمكن أن تنتجها أي منظومة، استبدادية كانت أو ديموقراطية.

إصلاحات من دون إصلاح

ومع هذا الواقع السياسي البشع، لا تبدو "إصلاحات" رئيس الحكومة التي ينشرها على صفحته في "فيسبوك" وتتلقفها وسائل الإعلام، إلا لعبة سمجة. فالعبادي ملتزم حتّى هذه اللحظة بحزبه المتورّط بأبشع وأكبر صفقات الفساد في البلاد، وهو يغطّي الشخصيّات الكبيرة الفاسدة، ولم يُحاكَم أو يُسأل أيّ من رجال الأعمال المعتمدين لدى حزبه والذين أشاعوا خراب البنية التحتية بسبب الصفقات الفاسدة. وليس صحيحاً أيضاً أن "إصلاحات" العبادي التي أقرّها مجلس النواب بتخفيض الحمايات وفّرت على الدولة الكثير من الأموال، فالحسبة الرياضية كفيلة بمعرفة أن عناصر الحماية الذين جرّد المسؤولين منهم سيستمرون بتلقّي رواتبهم من الحكومة، ولم يقم العبادي بأكثر من مناقلتهم من مكان إلى آخر. فضلاً عن ذلك، فإن دمج الوزارات بعضها مع بعض لم يتمّ بالكامل، إذ ما يزال الكثير من الوزراء يرفض ترك وزارته بسبب "شرائه" لها من قبل الحزب الذي استوزره إياها، والأنكى من هذا وذاك، أن هذه الإصلاحات - لو تحقّقت - فإنها لا تعدو كونها تصليحاً بسيطاً في عطب كبير أصاب محرّك البلاد.
"إصلاحات" العبادي المعلنة آنية إذاً ولا تمس جوهر النظام السياسي، وهي قابلة للامّحاء مع انتهاء التظاهرات أو إجراء انتخابات مبكرة، أو تعرّض البلاد لأي هزّة أمنية. وبهذا الشكل، فإن المنظومة السياسية ستستعيد هيمنتها في أي لحظة شاءت، وهذا يتنافى تماماً مع حركة الاحتجاج التي مَلّت من سرقة المال العام واعتماد السلطة سياسة الإفقار المستمر للمجتمع بكلّ أطيافه.

الغضب والمطالب والنخبة

طاقة الغضب التي تحوّلت إلى محافظتين تعانيان قلقاً أمنيّاً هما ديالى وصلاح الدين، لم تتوصل حتّى اللحظة لتوحيد قائمة المطالب. ما يزال المنظمون منطوين على أنفسهم في محافظاتهم، ويتمّ التركيز حالياً في كل جمعة تظاهر على مطلب واحد حتّى يتحقّق، ليتم الانتقال بعدها إلى المطلب الآخر، وفي هذا إنهاك للمتظاهرين ومُراهنة على استطالة قدرتهم على تحمّل الحرّ والخوف المستمر على حياتهم من السكاكين التي تتسرّب إلى ساحات التظاهر. وبمقابل هذا، لم تعمل النخبة الثقافية والأكاديمية حتّى اللحظة على وضع قائمة مطالب بإمكانها أن "تُصْلح" النظام، حيث إن معظم مطالب الشارع لا تعدو أن تكون "هدنة" بين العراقيين وسلطتهم. لقد فاقمت النخبة الأزمة بين الشارع والسلطة بدلاً من أن تقوم بدورها الذي يحتم عليها تقديم المقترحات على الناشطين في تأجيج الحراك ورفعه وتثقيفه بتأصيل خطاب يمكنه مجادلة السلطة وردعها إذا سوّفت المطالب. فقد عمدت هذه النخبة أوّلاً إلى تهدئة الشارع ولجمه من التصعيد مع السلطة، معلنة الالتزام بالمطالب الخدمية، فيما سهّلت في مرحلة تالية المهمة على السلطة في محاولاتها لإضعاف الحراك وإقناعه بأن "إصلاحات" العبادي مقدمة مهمة لتغيير شكل النظام إلى الأفضل. لذلك كله يتبدد غضب التظاهرات، ولا يتحوّل إلى حالة مُنتجة، وهو لا يتعدى كونه إثباتاً للوجود والقدرة على ملء الساحات والتعبير عن الغضب.
تثقّف النخبة المتظاهرين بالابتعاد عن المطالب السياسية، بدلاً من أن تصبح تمثيلاً سياسياً للمتظاهرين الغاضبين، و "تثقيف" النخبة هذا يتنافى تماماً مع الخراب الذي وصلت إليه البلاد. ليس ما حدث من خراب إلا نتيجة انسداد الأفق السياسي. إنه فشل متراكم أدى إلى هذا الغضب العارم في الشوارع والساحات، وتنفيسه الآن وعدم تصعيده يمنح الأحزاب الحاكمة وقتاً للالتفاف على المتظاهرين وعلى المجتمع ككل.
لكن فرصة الإفلات أمام الأحزاب لا تبدو كبيرة هذه المرّة، إذ يُقبل العراق ـ إذا ما ظلّت أسعار النفط منخفضة وكلفة الحرب المفتوحة على تنظيم "داعش" على الحال التي هي عليه ـ على فوضى كبيرة لا يعرف أعتى المتبصّرين نتائجها. تتردّد شائعة في الشارع اليوم عن قطع الحكومة لرواتب الموظفين خلال الأشهر المقبلة، أو تخفيضها، بسبب خلوّ خزينة الدولة من الأموال. ومعروف ان الاستدانة من صندوق النقد الدولي مشروطة بألا تذهب إلى المرتبات بل إلى الاستثمار، والمصارف الخاصّة في البلاد هي الأخرى تستدين من خزينة الدولة.. وعلى هذا المنوال، تبدو دائرة المال وكأنها تسير في دوامة لا حدود لها، ومستقبلها أكثر مأساوية مما هي عليه اليوم. فهل سيسكت العراقيون على جوع عوائلهم، خاصّة أن حركة الإنتاج الصناعي والزراعي في العراق معطّلة تماماً، وأن البلد يستورد احتياجاته بالكامل من الخارج، ومن ضمنها المشتقات النفطية، مع أنه من أكبر منتجي النفط ومصدريه؟

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...