عمالة آسيوية في بلاد ما بين النهرين!

حلَّ شخص آخر بدل سليم، لكن وجهه أكثر جهامة بسبب عدم تعوّده على المكان. أين سليم؟ ذهب إلى بلاده. وقع ضحيّة شركات التشغيل العراقيّة، لكنه جمّع ما يعينه على ضنك العيش في بنغلادش، اشترى ماعزاً وأسس بيتاً وسيتزوّج حبيبته التي انتظرته. سليم هو عامل المقهى الذي نلتقي فيه وسط بغداد، دخل إلى العراق على أنّه سائح ديني حين استقدمته شركة تشغيل عراقيّة غير مرخصة لدى الحكومة، وحصلت له على الفيزا،
2015-06-03

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك

حلَّ شخص آخر بدل سليم، لكن وجهه أكثر جهامة بسبب عدم تعوّده على المكان. أين سليم؟ ذهب إلى بلاده. وقع ضحيّة شركات التشغيل العراقيّة، لكنه جمّع ما يعينه على ضنك العيش في بنغلادش، اشترى ماعزاً وأسس بيتاً وسيتزوّج حبيبته التي انتظرته.
سليم هو عامل المقهى الذي نلتقي فيه وسط بغداد، دخل إلى العراق على أنّه سائح ديني حين استقدمته شركة تشغيل عراقيّة غير مرخصة لدى الحكومة، وحصلت له على الفيزا، ووصل إلى بلاد ما بين النهرين ليلمّ مالاً يعينه على قضاء حياته في بلده الغارق في الفقر. وبطبيعة الحال، ليس اسم الفتى الأسمر سليم، وإنما وهبه مشغّله في بغداد هذا الاسم ونزع عنه اسمه الذي جاء به، وتمت حفلة تغيير الأسماء هذه دون مفاضلة: ليس أمامه خيارات سوى تحمّل كل شيء. وكان مانيك (الذي حوّل مشغِّلُه اسمه إلى مالك) قد فعلها قبل سليم. أخبرني بأنه اشترى البقرة الثالثة وأنه ذاهب إلى بلاده إلى غير رجعة. شرح كيف سيعيش بلهجة عراقية واضحة قائلاً إنّه سيتخلّص من السّيارات المفخخة التي تضرب بلادنا ومنح مشغله عنوانه في حال زار بنغلادش.

عمّال الاحتلال

يعود وجود العمّال الآسيويين في العراق إلى لحظة 9 نيسان /أبريل 2003، إذ لم تكن البلاد قبل ذلك تعرف عمّالاً أجانب بهذا العدد، والحصار الذي فرضه مجلس الأمن الدولي على البلاد قبل وصول الاحتلال قد جعل العراقي عاطلاً عن العمل، بدخل يومي يعادل نحو نصف دولار. فما الذي يتعارك من أجله الفقير الآسيوي مع الفقير العراقي آنذاك؟
كان الجيش الأميركي وما رافقته من شركات أمنية وخدمية يستقدمون العمالة الآسيوية من أجل تخفيف أعباء المصاريف الملقاة على عاتقهم في الحروب. إلا أنه استقدام يقترب من العبودية إذ تمّ توظيف الشبّان في بلدانهم الفقيرة آنذاك على أنهم سيعملون في دول متعددة في الشرق الأوسط، وعلى وجه التحديد الأردن والكويت والسعودية. بيد أنه يتم اخبارهم حال وصولهم إلى تلك البلدان بأنهم سينتقلون إلى العراق. بذا لم يكن أمام الكثير منهم إلا القبول نتيجة الديون التي خلفوها في ديارهم من أجل إيجاد عقد عمل خارج بلدانهم، إذ تقدّر النقابات العماليّة في الهند، على سبيل المثال، أنه يترتب على العامل الهندي من أجل أن يجد عملاً خارج بلاده، تأمين نحو 1800 دولار لشركات التشغيل في الخارج، وهو يتلقّى مقابل ذلك في البلدان التي يفد إليها مرتباً شهرياً يتراوح بين 350 و800 دولار أميركي شهريّاً.
"إنه يشبه معسكر اعتقال"، هكذا نقل الصحافي الأميركي ديفيد هيفي عام 2004 عن أحّد العمّال الآسيويين العاملين مع الجيش الأميركي، وهو يشرح معيشته ونومه في مطار بغداد، الذي كان ثكنة عسكرية كبيرة تابعة للولايات المتحدة الأميركية. لكن هذا ليس وحده الذي تحمله المعاملة الوحشية لهؤلاء من قبل الجيش الذي جاء "محرراً" العراق، إذ يتعدّى الأمر إلى جعل هؤلاء السُمر في مقدمات الأماكن التابعة للجيش الأميركي، أي كبش فداء أثناء تعرّض المقار إلى هجمات. فضلاً عن ذلك، فإن الكثير من هؤلاء خُطف وأُعدم من قبل المتطرفين على أنّه متعاون مع "النصارى"، ولم تحرّك الولايات المتحدة طرفاً للتفاوض من أجل استعادتهم، على العكس مما فعلت مع جنودها.
مع انسحاب شركات الخدمات التي رافقت الجيش الأميركي، وهي في غالبها متخصصة بإطعام الجنود والمنظومات الالكترونية وبناء القواعد، وُضعت العمالة الآسيوية القادمة من الهند وبنغلادش وسيرلانكا والفلبين مجدداً أمام خيار البقاء في العراق للعمل لمصلحة شركات عراقيّة مرتبطة بشركات العمالة الأجنبيّة في الخليج، أو الرحيل إلى الخليج لتواجه البطالة هناك ومن ثمّ الرحيل إلى بلادها. ما كان على الآلاف من هؤلاء، والذين لم يستطيعوا تسديد دين "العمل خارج البلاد"، إلا الموافقة مجدداً على البقاء في أرض تزداد توتراً أمنياً.
بهذه الطريقة، بدأت العمالة الآسيوية تتسرّب من المنطقة الخضراء، محميّة الجيش الأميركي والسياسيين العراقيين، والثكنات العسكرية، إلى الشارع العراقي ليتنافس العامل الآسيوي مع العامل العراقي.
في البداية، كان العامل الآسيوي الذي لا يكلف رب العمل سوى وجبتي طعام خفيفتين وفراش بسيط في أي مكان، يتلقّى مرتباً لا يزيد على 250 دولاراً في الشهر، بينما لا يسدّ هذا المبلغ نصف أيام شهر العراقي، الذي يتحمّل تكاليف السكن وأعباء مصاريف الكهرباء والطب المرتفعة. هكذا صار المُشغِّل العراقي يفضّل العامل الآسيوي لأسباب عدّة، ومنها بشكل رئيسي، استغلاله في العمل لأكثر من 14 ساعة في اليوم وعلى مدار 30 يوماً في الشهر من دون أن يواجَه بالتذمر أو التهديد بترك العمل.

المزيد

مع إثبات العمال الآسيويين خنوعهم لأربّاب العمل ـ مجبرين ـ ازداد الطلب عليهم من المشغلين العراقيين. ومع غياب الدولة وجشع السوق المنفلتة في العراق، ولا سيما في مجال المقاولات التي تتحصّلها الشركات من الدولة في خانة "مشاريع الإعمار"، جرى استقدام أعداد جديدة من العمالة الآسيوية غير تلك التي خلّفها الجيش الأميركي وراءه.
نما بهذا الشكل جيش من الآسيويين السمر في المحال والشركات العراقيّة، يعملون بلا كلل من الصباح حتّى المساء، يتحمّلون إهانات مشغليهم، وقد أدّت وفرة الطلب على العمالة الآسيوية إلى إيجاد مساحة للتنافس على تشغيلهم ما رفع مرتباتهم من 250 إلى نحو 400 دولار.
وعلى العكس من البلدان التي تلتزم الشركات التي تستقدم العمالة الأجنبيّة التفاوض مع المشغلين، يُفاوض العامل الآسيوي في العراق رب العمل على أجوره، ولا تقوم الشركة إلا بإدخاله إلى البلد عبر مافيا تتكوّن من عدة شركات سياحية متعاونة مع وزارة الداخلية للحصول على "فيزا" السياحة الدينية.
حدت الحالة الأمنيّة الهند إلى حظر السفر على مواطنيها للعمل في العراق، إلا أن نقابات العمّال الهندية تفاجأت بتواجد نحو 20 ألفاً من مواطنيها في البلاد، وتسرّب أغلب هؤلاء بالطريقة القديمة ذاتها.. أي عبر دول الخليج وعبر شركات مختصّة بتشغيل العمّال. أما بنغلادش، التي يعتمد اقتصادها بشكل كبير على الحوالات التي يرسلها عمّالها ومهاجروها خارج البلاد (استقبلت عام 2009 و2010 نحو 11 مليار دولار منهم)، فأعلنت مرّات عدّة حظر السفر إلى العراق لكنها سرعان ما تراجعت عنه. وعلى كلّ حال، لم يسلم هؤلاء العمّال من الفوضى الأمنيّة في العراق، فسقوط ثلث البلاد في حزيران / يونيو العام الماضي بيد تنظيم "داعش" أدّى إلى فقدان الاتصال بـ42 عاملاً هندياً في الموصل، فضلاً عن ممرضات كانت الحكومة العراقيّة قد تعاقدت معهن. أما في محافظة صلاح الدين، فقد أحرق "داعش" نحو 60 عاملاً بنغلادشياً أمام الملأ بحجّة تعاونهم مع الحكومة "الصفويّة".

سليم ومانيك وحسن

تقدّر وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عدد العمّال الآسيويين المتواجدين في العراق بطرق غير شرعيّة بنحو 150 ألف عامل، شكّلت من أجل الحدِّ من وجودهم 28 لجنة تفتيشية تقوم بتغريم المحال والشركات التي تشغلهم بمبلغ يعادل 2500 دولار، فيما تقدّم العمّال إلى محكمة العمل، التي غالباً ما تقوم بترحيلهم إلى بلدانهم أو البلدان التي قدموا منها. لكن هذه الآلية يشوبها فساد، إذ سرعان ما يعود العامل الآسيوي إلى الشركة التي استقدمته لتقوم الأخيرة بتقديم الرشى للإبقاء عليه في العراق، ويتمّ هذا أيضاً وفقاً لصفقة مالية بين العامل والشركة.
سليم الذي قرّر الرحيل إلى بلاده بعد أن جاءته لجنة تفتيشية إلى المقهى، قال لمشغله إنه لم يعد يطيق البقاء في البلاد. أما مانيك الذي بلغ سنّ رشده في العراق بعد أن جاء قاصراً إليه، فداوم في العراق لثلاثة أعوام، وتعلّم اللهجة العراقيّة حتّى صار لا يمكن التفريق بينه وبين أبناء البلد. حسن، عامل الشاي العراقي في المؤسسة الصحافية حيث اعمل هو الضمير الجماعي في التعامل مع هؤلاء العمّال: مرّة، وضّب حسن أغراضه، وجاء ليتمنى الخير لي لأنه لن يراني بعد ذلك، وقد بدت ملامح الغضب واضحة عليه، "ما الذي حصل لتترك العمل؟"، أجاب: "اشتروا بنغلادشي بدلاً عني".

 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...