البحر الأبيض المتوسط، مقبرة البشر والآمال

المقاربة الأمنية في التعامل مع الهجرة الى أوروبا منافقة، فالبلدان الأوروبية ستكون بحاجة حقيقية لآلاف البشر القادمين من المغرب العربي وأفريقيا لمواجهة التحديات التي يفرضها التهرم السكاني لمجتمعاتها.
2018-11-02

ناظم يوسفي

باحث من تونس


شارك
| fr en
سمعان خوام - سوريا

تم دعم هذه المطبوعة من قبل مؤسسة روزا لكسمبورغ. يمكن استخدام محتوى المطبوعة أو جزء منه طالما تتم نسبته للمصدر.

استيقظ أرخبيل قرقنة، الواقع قبالة سواحل مدينة صفاقس التونسية، يوم 3 حزيران / يونيو 2018 على وقع مأساة: غرق قارب غير معد للسفر يحمل قرابة 180 مهاجراً غير نظامي. ابتلع المتوسط المزيد من البشر. انطلق المركب من سواحل قرقنة فجراً بإتجاه جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، لكن عاصفة هوجاء قلبته. تمكن الحرس البحري التونسي من إنقاذ 74 مهاجراً، من بينهم خمسة أشخاص قادمين من إفريقيا جنوب الصحراء، وانتشل 71 جثة، أربعة منها لنساء حوامل. قرابة الأربعين مهاجراً اعتبروا في عداد المفقودين. وبما يتعدى الكارثة الجماعية، فهناك روايات فردية بثتها الإذاعات تحكي عن مآس شخصية: والد أحد المهاجرين المفقودين يروي عذابات ابنه الذي كان يريد الالتحاق بأمه واخته في إيطاليا، لكن طلباته للحصول على التأشيرة رُفضت 11 مرة. أحد الناجين يروي كيف ان القارب المعد لنقل 70 شخصاً خرج وهو يحمل على متنه 180 مهاجراً. ناجٍ آخر وبعد أن وصف أهوال حادثة الغرق، يصرح بأنه مستعد لخوض المغامرة مجدداً كي يصل الى السواحل الإيطالية.

ليس هذا الحادث أول ولا آخر مأساة في البحر الأبيض المتوسط الذي أصبح مقبرة للبشر والآمال. هناك حادثتا غرق سابقتان أثارتا ضجة كبيرة: خلال ليلة 6 أيلول /سبتمبر 2012 غرق، غير بعيد من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، قارب انطلق من مدينة صفاقس حاملاً 100 شخص. استطاع 56 شخصاً النجاة وتمّ انتشال جثتين، وأما الآخرون فلا شيء.. ولا حتى بقايا. و في الثالث من تشرين الاول / أكتوبر 2017 خلفت حادثة اصطدام بين قارب مهاجرين غير نظاميين وخافرة تابعة للبحرية التونسية قبالة سواحل أرخبيل قرقنة عشرات الموتى والكثير من المفقودين.

للإشارة إلى هذا الشكل من الهجرة نحو أوروبا اخترنا وصف "غير نظامية"، فمصطلحات مثل "سرية" و"غير شرعية" التي تستعمل على نطاق واسع، سواء في شمال المتوسط أو في جنوبه هي نعوت وضعت لتجريم الظاهرة كما أنها مشحونة بدلالات ضمنية أخلاقوية ووعظية.

هجرة قديمة وغير مضبوطة

تاريخياً، كانت هجرة التونسيين غير النظامية نحو إيطاليا، في جزء كبير منها، غير مضبوطة. فعلى الرغم من اتفاقيات جلب الأيادي العاملة المبرمة بين تونس و البلدان الأوروبية منذ العقد السادس من القرن الماضي، وهي كانت منظمة لتوجيه وتأطير الأدفاق الهجرية، فإن التونسيين الطامحين إلى الهجرة كانوا يفضلون السفر دون المرور بهذه الآليات المؤسساتية التي تم وضعها في ضفتي المتوسط. فهم كانوا يعولون على شبكات علاقاتهم الاجتماعية للوصول إلى أوروبا. يذهب المهاجر بصفته سائحاً دون تأشيرة، ثم يجد عملاً و يسوي وضعيته القانونية فيما بعد. تؤكد هذا الموقف شهادات جمعت من تونسيين استقروا في مدينة نيس الفرنسية منذ 1967: مرور الراغب في الهجرة بالمنظمات الرسمية المكلّفة بتوظيف اليد العاملة الموجهة للخارج، يستغرق الكثير من الوقت ويتطلب اللجوء إلى وسطاء وأشخاص نافذين لكي يرد اسمه في قائمة الذين سيقع عليهم الاختيار. في الوقت الذي يمكنه أن يصل إلى فرنسا في مدة أقصر عبر استغلال شبكات العلاقات العائلية والصداقة والجيرة، طالما أن تسوية وضعيته القانونية سهلة. حسب الإحصائيات الرسمية التونسية فإن أكثر من سبعين في المئة من حالات الهجرة إلى أوروبا خلال الفترة الممتدة بين 1967 و1972 كانت تلقائية لم تخضع لرقابة السلطات التونسية (1).

أكثر من سبعين في المئة من حالات الهجرة إلى أوروبا خلال الفترة الممتدة بين 1967 و1972 كانت ذاتية، لم تخضع للآليات الموضوعة للهجرة والاتفاقات الموقعة لهذا الغرض بين تونس وبلدان أوروبية، ولا لرقابة السلطات التونسية.

تغيرت المعطيات مع وقف هجرة العمل في أوروبا ابتداء من أواسط السبعينات من القرن الماضي. وأصبحت تسوية وضعية المهاجرين المقيمين بطريقة غير قانونية أصعب فأصعب. بدأت الهجرة غير النظامية المتعارف عليها باسم "الحرقة" والتي تنطلق من تونس نحو إيطاليا في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما أقرت اتفاقية "شنغن" فرض تأشيرة دخول على التونسيين. الصعوبات الاقتصادية في تونس والبطالة، بالإضافة إلى التفاوت في التنمية بين الجهات، خلقت ظروفاً ملائمة للهجرة غير النظامية (2). ظهور هذا الشكل من الهجرة التي تنتج عنها مآس غالباً ما تكون مميتة هو إذاً نتيجة تغيير التشريعات في أوروبا وغلق الحدود أمام الأيادي العاملة وإقامة الجدار المتوسطي في فترة ينفتح العالم خلالها على رؤوس الأموال والسلع والأفكار. وتشديد شروط منح التأشيرة، والمراقبة الصارمة للحدود، عرّضا حياة آلاف الشباب للخطر. أصبحت القوانين الأوروبية منذ عدة سنوات ردعية تحت تأثير الترسانة القانونية لإتفاقية شنغن. وبموازاة ذلك، تجرِّم القوانين التونسية الرحلات غير النظامية وهي صارت تقضي بسجن الذين يحاولون اجتياز الحدود بطريقة "غير شرعية" كما تنص على عقوبات سجنية أثقل بكثير للمنظمين والذين يقودون الرحلة، وعلى غرامات مالية كبيرة.

التحدي

وعلى الرغم من أن دول الجنوب انتظرت الاستثمارات الأجنبية التي أعلن عنها وسط مظاهر احتفالية كبيرة عقب توقيعها اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، فإن هذه الاستثمارات تتأخر في القدوم، وحتى تلك الموجودة من قبل قام أصحابها بحملات تطهير أحالت العديد من الموظفين إلى البطالة.

وسائل الردع في تونس كما في أوروبا لم تحبط العوامل المشجعة على الهجرة التي ما انفكت تتزايد. لم يعد شباب جنوب المتوسط - ومن بينهم التونسيون - المحاصرون من الفقر والبطالة والاضطراب النفسي يرون نهاية النفق.. بل أن الهجرة غير النظامية لم تعد فقط طريقة للبحث عن عمل بل أصبحت فعلا "بطولياً" تتشكل من أجله مجموعات وتتحدى "الدولة" المعتبرة بنظرهم رديف الفشل والفساد والفوضى.

استناداً إلى بحوث "المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية"، فإن رحلات الهجرة غير النظامية تُرتَّب من طرف شبكات إجرامية تستغل حالة الضيق التي يعيشها الطامحون إلى السفر. تربح هذه الشبكات قرابة 400 مليار دولار (3). وتشير الدراسة إلى ظهور مجموعات مافيوزية ذات بعد دولي تضم ايطاليين وألبان وجنسيات أخرى. يجب على الراغب في الهجرة أن ينفق ما بين 3000 و8000 دينار (1000 - 3000 يورو).

في سنة 2008 جاء المهاجرون التونسيون غير النظاميبن لأول مرة على رأس قائمة الجنسيات التي وصلت إلى لامبيدوزا حيث بلغ عددهم 6762 شخص. في 2007 بلغ عددهم 1100 مهاجر محتلين هكذا المرتبة الرابعة وراء الأريتيريين والمغاربة والفلسطينيين. خلال سنتي 2009 و 2010 انخفض عدد الذين وصلوا السواحل الإيطالية إلى معدل أقل من 1000 مهاجر في السنة بسبب تشديد السياسة الهجرية التي وضعتها إيطاليا. لكن غداة الثورة التونسية تم تسجيل ذروة هجرية ترجع لعدة أسباب من بينها التراخي الأمني وجو الفوضى في البلاد وقلق الشباب إزاء مستقبل غير واضح وقدرة "سوق" الهجرة غير النظامية على تحريك الشباب الذين يطمحون إلى الهجرة في سياق يتميز بضعف الدولة (4).

على الرغم من أن دول الجنوب انتظرت الاستثمارات الأجنبية التي أعلن عنها وسط مظاهر احتفالية كبيرة عقب توقيعها إتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي، فإن هذه الاستثمارات تتأخر في القدوم، وحتى تلك الموجودة من قبل قام أصحابها بحملات تطهير أحالت العديد من الموظفين الى البطالة!

بدءاً من النصف الثاني لسنة 2011، تناقص حجم الهجرة غير النظامية: انخفض عدد التونسيين الذين وصلوا إلى إيطاليا من 20258 إلى 4300 شخص. إعادة تفعيل عمليات مراقبة السواحل والموانئ من قبل السلطات المختصة هي بلا شك أحد الأسباب الانخفاض.

تعي السلطات الرسمية في تونس أن المهاجرين غير النظاميين هم ضحايا أزمة اقتصادية هيكلية لا يمكن تجاوز آثارها السلبية إلا عبر ضمان استقرار الوضع السياسي للبلاد ودفع النمو الاقتصادي من جديد. لكنها ما زالت تعتبر الهجرة غير النظامية ممارسة غير قانونية. في الواقع، لم يتم تعديل قانون ردع اجتياز الحدود بطريقة غير شرعية الصادر في 3 شباط/ فبراير 2011، وهو قمعي ومخالف لحقوق الإنسان. ميدانياً، تعتبر الحكومة أن التصدي الأمني للهجرة غير النظامية هي أولوية في انتظار توقيع اتفاقيات تشجع الهجرة الشرعية. من هذا المنطلق تُدعِّم وزارة الداخلية التونسية قدراتها في المراقبة اعتماداً على مساعدات أوروبية مالية ولوجيستية. بالنسبة للرأي العام، فالمآسي المرتبطة بالهجرة غير النظامية تحرك مشاعر الغضب والتعاطف والترحم. إلا أن وسائل الإعلام وخطب السياسيين تستعيد، بعد مراعاة مشاعر الحزن لأيام، الخطاب الأخلاقوي/ الوعظي الذي يجرّم المهاجر. وهو خطاب يتناغم مع المقاربة الأمنية الأوروبية للظاهرة.

خلاصة

في شمال المتوسط، تتحرك الدول المهووسة باستيهام "الغزو" لإقفال الحدود عبر وكالة "فرونتكس" ("الوكالة الأوروبية لحرس الحدود وخفر السواحل"). في السنوات الأخيرة، سجلت الحدود الخارجية لأوروبا زيادة غير مسبوقة في عدد المهاجرين واللاجئين الذين يأملون في دخول الاتحاد الأوروبي. والدول التي لديها حدود خارجية هي وحدها المسؤولة عن مراقبتها، ومع ذلك، فبإمكان وكالة فرونتكس تقديم دعم تقني إضافي لدول الاتحاد الأوروبي التي تواجه ضغطاً هجريا قويا. تنسق وكالة فرونتاكس عمليات بحرية (في اليونان وإيطاليا واسبانيا مثلا) بالإضافة إلى عمليات على الحدود الخارجية البرية خاصة في بلغاريا ورومانيا وبولونيا وسلوفاكيا. وهي أيضا حاضرة في عدة مطارات دولية في كامل أنحاء أوروبا (5).

كل التدابير، سواء الموجودة في شمال المتوسط أو في جنوبه، لا يمكنها وقف تدفق الهجرات غير النظامية. فأخبار المراكب التي رست في السواحل الإيطالية، أو القوارب التي يتم اعتراضها في عرض المتوسط سواء على أيدي السلط التونسية أو خفر السواحل الإيطالي هي خبز يومي. معالجة هذه الظاهرة تمرّ عبر اعتماد مقاربة جديدة تقطع مع الوسواس الأمني وتأخذ في عين الاعتبار كرامة وحرية الأشخاص. فمنذ فجر التاريخ، لم توقف الحدود التنقلات البشرية أبداً، فالهجرة حركة طبيعية وشرعية. والحل هو إيجاد إمكانيات ازدهار للبشر في بلدانهم مع التصدي في الوقت نفسه لسياسة تحصين الحدود الأوروبية في الشمال. الخطاب السائد في الجنوب ضد المهاجرين غير النظاميين مبني على الحجج نفسها التي يقدمها الأوروبيون. وبهذا الشكل، تلعب دول الجنوب دور الشرطي الذي يحرس الحدود الأوروبية بالوكالة. المقاربة الأمنية في التعامل مع الأدفاق الهجرية في أوروبا منافقة وتنطوي في الوقت نفسه على مفارقة تاريخية، فالبلدان الأوروبية ستكون بحاجة حقيقية لآلاف البشر القادمين من المغرب العربي وأفريقيا لمواجهة التحديات التي يفرضها التهرم السكاني لمجتمعاتها، فالاقتصاد الأوروبي مجبر على استجلاب سواعد تلبي احتياجات ستتزايد أكثر فأكثر...

ترجمة: محمد رامي عبد المولى

______________________

1- ناظم اليوسفي "تونسيون في إقليم الألب-ماريتيم: تاريخ محلي ووطني للهجرة العابرة للمتوسط (1956-1984)"، كتاب صادر بالفرنسية عن دار نشر l’Harmattan-IRMC باريس 2013.
2- رضا بن خليفة " الهجرة غير النظامية في تونس بعد 14 يناير 2011، مشكلة المفقودين: السلط العمومية والمجتمع المدني" ، مقال صادر بالفرنسية في مجلة Hommes et Migrations العدد 1303 آّذار/مارس 2013
3- ملاحظة المترجم: هذا الرقم لا يخص تونس وحدها أو سنة بعينها بل هو حساب تقريبي لعائدات شبكات تهريب المهاجرين في العالم.
4- ملاحظة المترجم: خلال الأشهر الأربعة الأولى التي تلت اسقاط بن علي شهدت ظاهرة الهجرة غير النظامية انفجارا غير مسبوق حيث فاق عدد التونسيين الذين وصلوا السواحل الإيطالية أكثر من 20 ألف شخص.
5-
https://frontex.europa.eu

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

مقالات من تونس

كيف تعيش تونس الحرب على غزة؟

آخر الشهداء التونسيين مع النضال الفلسطيني محمد الزواري، المهندس التونسي الذي اغتاله "الموساد" أمام بيته في مدينة "صفاقس" (وسط شرق تونس) في كانون الأول/ديسمبر 2016. يومها اكتشف التونسيون ان الشهيد...