العراق ينفض اليأس: قصة طويلة

في البدء كانت البصرة. شرارة حركة الاحتجاج على السلطة في العراق انطلقت من هناك، إثر ارتفاع درجات حرارة ورطوبة الجو إلى معدلات قاتلة مع غياب الكهرباء، ما دفع الشبّان إلى تظاهرات ليلية كانت بداياتها أفراداً وقفوا أمام مبنى محافظة البصرة، لكنها سرعان ما اتسعت لتضمّ مثقفي المدينة وناشطيها. ثم انضمت الى الاحتجاج مُدنٌ ومحافظات أخرى في وسط وجنوب العراق. كالعادة.. رمت الكتل السياسية اتهاماتها على
2015-08-20

عمر الجفال

كاتب صحافي من العراق


شارك
من تظاهرات بغداد/تصوير: علي عبّاس (EPA)

في البدء كانت البصرة. شرارة حركة الاحتجاج على السلطة في العراق انطلقت من هناك، إثر ارتفاع درجات حرارة ورطوبة الجو إلى معدلات قاتلة مع غياب الكهرباء، ما دفع الشبّان إلى تظاهرات ليلية كانت بداياتها أفراداً وقفوا أمام مبنى محافظة البصرة، لكنها سرعان ما اتسعت لتضمّ مثقفي المدينة وناشطيها. ثم انضمت الى الاحتجاج مُدنٌ ومحافظات أخرى في وسط وجنوب العراق. كالعادة.. رمت الكتل السياسية اتهاماتها على بعضها في "تحريك الشارع وتأليبه" ضد الأحزاب الحاكمة من أجل كسب منافع سياسية لصالح هذا الفريق أو ذاك. الافتراض أن صوت الشارع هو صاحب سلطة، ويمكن أن يعبر عفوياً عن غضبه إزاء ما يعانيه، مغيّب. هذه المرة اختلف الأمر. خرج العراقيون ساخطين كما لم يفعلوا من قبل. ولم تحرّك الاحتجاجات جهة أيديولوجية أو نخبة ثقافية، وإنما تحرّك الشارع بعفوية بعد أن أنهكه تراكم فساد الأحزاب، وانعدام مستوى الأمن والخدمات، وتفاقم الجوع في كلّ تلك المُدن المنكوبة.

بانوراما الاحتجاج

التحقت بغداد متأخرة، بعد نحو شهر، بالتظاهرات في وسط وجنوب البلاد. جرت في 31 تموز / يوليو التظاهرة الأولى التي شهدتها العاصمة، ودعا إليها مثقفون وناشطون. قليلون هم من حضروا الى ساحة التحرير حيث مكان التظاهرات، لكن، وعلى الرغم من قلة العدد، فقد شجّع ذلك المحافظات الأخرى على التحشيد أكثر. فبغداد لكونها العاصمة، وبسبب موقعها الجغرافي، ما تزال مركزاً تتجه الأنظار إليه، ووجودها في الحراك يعني تأثيراً مباشراً على الحكومة الاتحادية وأحزاب السلطة.
التحضير لجمعة التظاهر الثانية تخلله تساؤل شبّان على مواقع التواصل الاجتماعي: "ضد من سنتظاهر؟"، وهو سؤال ملحوق بسلسلة كبيرة من التعليقات الساخرة من الأحزاب التي أعلنت تأييد التظاهرات، بل وطالب بعضها جماهيره بالنزول إلى "ساحة التحرير" وسط بغداد لإعلان موقفهم "ضدّ الفساد والمحاصصة الطائفية التي تخنق البلاد منذ سقوط النظام الديكتاتوري في نيسان / أبريل عام 2003"!
كان أسبوع عصيب بين التظاهرتين. فالأولى كانت عفوية لا أهداف لها سوى الخدمات والكهرباء، ولم تركب موجتها الأحزاب السياسيّة الحاكمة. شبّان يعانون البطالة، وآخرون أطفالهم ينوحون ليلاً في ظل حرارة تجاوزت 50 درجة، وآخرون حانقون على وضع بلادهم السيئ بشكل مستديم والذي لا يبدو أمل للتغير فيه. أما في التظاهرة الثانية، والتي كان التحشيد لها كبيراً، وتعاطف معها أغلب سكّان بغداد (وهو ما أقلق أحزاب السلطة)، فقد كان الخوف بادياً على الجميع، والسبب: سمح خمسة من المحرّضين على التظاهرات والداعين إليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للأحزاب بتسلق التظاهرات، حيث تمّ التفاوض على مشاركة فصيل مسلّح يمتلك نائباً في البرلمان وعدداً من المُدراء العامين، على أساس الاتفاق على الأهداف نفسها، وهي محاربة الفساد وضعف الخدمات والمحاصصة الطائفية.
سمح ذلك الاتفاق الذي لم يُستشر فيه المتظاهرون، وتمّ عقده بسريّة حتّى إعلانه، بأن يركب الجميع الموجة ويعلنون استعدادهم للنزول، فما الذي يختلف فيه فصيل أو حزب عن آخر، طالما هم جميعاً مشاركون في السلطة، وساعدوا الحكومات المتعاقبة في دفع البلاد إلى الحال المزري الذي وصلت إليه؟
إلا أن مسألتين أفشلتا تدخّل الفصائل المشاركة في الحكومة والبرلمان بالتظاهرات. تمثلت الأوّلى بالضعف الجماهيري لهذه الفصائل، إذ أنّها لطالما اعتمدت على دفع المال مقابل التظاهرات التي تقيمها وكان الوقت هنا قد خانها، فكان عدد متظاهريها محدوداً جداً، والثانية تحدّي الشبّان المنفلتين من عقال كلّ التصنيفات الحزبيّة، وإصرارهم على ملء ساحة التحرير ببغداد ورفع شعار "باسم الدين باكَونا ــ سرقونا ــ الحرامية".

مشهد جديد

تعني التظاهرات، من جملة ما تعنيه، السعي إلى استعادة المدينة التي أغلقت على السكان ومنعت تجمّعهم لأعوام طويلة. بالطبع لم تكن هذه المرة الأولى التي تتظاهر فيها المُدن العراقيّة بعد سقوط النظام الديكتاتوري، إلا أن هذه المرة تميزت بوعيّ ملفت. الشعارات عراقيّة وأصيلة، لم تستعر من حراك "الربيع العربي" كما في عام 2011. محليّة بامتياز، تحتفظ بروح النكتة العراقيّة الخالصة، بل وببذاءتها في بعض المفاصل.
وقد برز في التظاهرات جليّاً الصراع على احتلال الحيز العام من خلال شعاري "الما يزور التحرير عمره خسارة"، و "التحرير النا وما ننطيها" (في استعادة ساخرة لجملة شهيرة قالها نوري المالكي قبيل سقوطه بأيام عن "السلطة إلنا وما ننطيها"، وراحت مثلاً). ومن خلال شعار "احنا البرلمان"، بدت الديمقراطية لهؤلاء العراقيين أكثر من صندوق انتخابي يوضّب على عجل كل 4 أعوام. بمعنى آخر، فهم يعاودون التعرّف على علاقتهم بالسلطة وعلى ذواتهم. فكوا قيد اليأس ولم تعد الكلمات التي يدبجها الساسة من على شاشات التلفاز كل يوم تعنيهم طالما أنها لا تترجم إلى أفعال. حتّى أن الراديكاليين من رجال الدين الذين كانوا يمتلكون "سلطة الخطاب" على أهل العراق، والذين وصفوا التظاهرات بأنها "تُحارب الدين"، قوبلوا بالسخرية.
وبدا علاوة على ذلك أن العراقيين يستعيدون في هذه الاحتجاجات هويّتهم الجماعية كعراقيين. لا شيء في ساحات الاحتجاج يدلّ على طائفة أو قوميّة، ويبدو الجميع متساوون، يبحثون عن الحقوق المسلوبة، والمواطَنة المفقودة في ظلّ صراع الهويّات الفرعيّة التي جذّرتها الأحزاب الحاكمة بتفرعاتها الثلاثة، الشيعية والسنية والكردية.
ويُمكن للافتات التي حُملت في ساحات التظاهر أن تختصر الآفاق المسدودة التي بلغها العراق وحجم الرفض للمحاصصة الطائفية التي لخّصت البلد بمكوّنات طائفية وإثنية، وألغت المواطنة بشكل كامل. حمل شاب بدت ملامح الحزن واضحة عليه لافتة غايّة في العاطفية، إلا أنّها تلخّص ملمحاً أساساً من الانقسام داخل المجتمع: "من سياستكم الطائفية فقدت حبيبتي.. ذنبنا أنني شيعي وهي سنيّة"، وحمل شاب آخر لافتة كتب عليها: "عذراً وطني الجريح.. فقد انتخبت اللصوص نصرة للمذهب". هذه اللافتات لم تظهر في بغداد وحدها، المدينة الأكثر اختلاطاً بين الطوائف مقارنة بالمحافظات الأخرى، بل هي امتدت إلى المُدن ذات الطابع الديني مثل النجف وكربلاء.
بالمقابل، لم ينبثق أحد أكثر الشعارات ترديداً والذي أقلق الأحزاب الدينية، "باسم الدين باكَونا ــ سرقونا ــ الحرامية" من فراغ. فالاسلام السياسي الحاكم لم يحقّق أي نجاح في أيّ مفصل، لا في إدارة الدولة، ولا في الحفاظ على الوطن. فطوال عقد ونيّف انقضت منذ 2003، ومع الاسلام السياسي السني والشيعي على السواء، ازدادت أنهار الدم تدفقّاً، وصار الفساد جزءاً من منظومة الحكم، حتّى أوصل المجتمع إلى القبول بالنهب، ولكن بـ "انصاف"، حسبما يتردّد في الشارع العراقي.

مطالب.. مطالب

في جميع ساحات المدن العراقية الثماني التي تتظاهر كل يوم جمعة، يحمل كل عراقي ــ تقريباً ــ من المتظاهرين مطلباً عاماً. تكاد الحكومة تجنّ أمام المطالب الكثيرة التي تُعلن في ساحات التظاهر. لم تعد تعرف فعليّاً ما الذي عليها فعله لإرضاء الناس. لكن هذا ليس بطراً بطبيعة الحال. فعمل الحكومات طوال الأعوام الماضية ضمن إطار الأمن والخدمات كان منعدماً. ظلّت الأموال تُنهب، والأحزاب التي تُمسِك بزمام السلطة تزداد فحشاً وثراء من المال العام. القوانين مركونة على طاولات ورفوف البرلمان، والمشاريع تُوقّع على الورق، وأموالها تُحوَّل إلى المصارف الخارجيّة. أما على الأرض فليس سوى السراب.
تشتّت المطالب هذا لم يؤرق السياسيين وأعضاء حكومتهم فحسب، بل أرّق النخبة الثقافية أيضاً: من أين تبدأ؟
حتى اللحظة، لا قيادة للتظاهرات، وليس لها مطالب واضحة لتفاوض الحكومة عليها، وليس هناك سقف للاحتجاج. الأمور منفلتة، وهذا ما يجعل الخوف مشروعاً من تشتّت التظاهرات ووقوعها في الإعياء. فالاحتجاج يتطلب إدامة الزخم، ورفع سقف المطالب الموحدة، ومراقبة الحكومة بخصوص الاستجابة إليها أو إهمالها. وبالطبع، فكل هذا الزخم وكل هذا "التشتّت" في آن معاً لا تنظّمه إلا معارضة تقليدية أو نخبة ثقافية ثورية. الأولى منعدمة بسبب المحاصصة وتقاسم النفوذ والمناصب، ما يجعل كل الأطراف السياسية شريكة في المشهد البائس الذي يدينه الناس، ومتورطة في السوء، أما الثانيّة فهي تعاني أزمة متجذّرة بسبب أمراض ليس أقلها النرجسيّة الفرديّة المتفاقمة..
التظاهرات العراقيّة القائمة الآن لا تُطالب بإسقاط النظام، بل أنها تدعم جملة الإصلاحات التي أعلنها رئيس الحكومة، وإن كانت فعلياً تتجاوزها. هي تظاهرات تطالب بالخدمات، إلا أنّها من جانب آخر سياسية بامتياز، تنادي بمحاكمة الفاسدين، وتصيب هنا رؤوساً كبيرة في السلطة وفي الأحزاب السياسية الحاكمة. والأهم من هذا وذاك، أنها بشعارها "باسم الدين الخ.." تُحبِط الاستقطاب المذهبي الذي تعيشت عليه السلطة ــ أو النظام القائم بغض النظر عن شخوصه ورموزه ــ في إدارتها للمجتمع، ونظّمت وفقه عداواته واقتتاله الداخلي، سواء كان هذا الاقتتال حربياً أو كان "بارداً".
صحيح أن الغضب العام أجبر الحكومة والبرلمان على إعلان ورقتي أصلاح متخمتين بالبنود، لكن الصحيح أيضاً أنه يمكن تسويفهما بسبب اصطدامهما بالقوانين والدستور. بالمقابل لا يبدو أن الشارع العراقي الذي يغلي انطلت عليه هذه اللعبة، وهو الآن يُحضِّر لجمعة بعد أخرى. وفي المحصلة، ولو لم تحقّق هذه التظاهرات كلّ مطالبها، ولو قُمعت أو استغلت أو حُرفت، فإنها قضت على الإحساس باليأس والعجز اللذين سيطرا على العراقيين، ما حّد من قدرتهم على الضغط وتغيير أحوالهم بأيديهم. كما أنها في الآن ذاته، صفعت الساسة وأظهرت لهم حدود خطاباتهم الشاحنة، على تنوعها وغرْفها من كل معين (ديني، مذهبي، قبلي، جهوي، اثني، تناحري الخ.. )، طالما أحوال المجتمع تسوء بهذا الشكل المريع وتتدهور إلى الدرك الأسفل، وطالما الفساد سيد الموقف.

 

للكاتب نفسه

العراق الشاب.. أعزلٌ في وجه "اللادولة"

عمر الجفال 2019-10-22

تندّر السياسيون على دعوات الشباب للتظاهر قبل انطلاقها بساعات. عاملوهم على أنّهم قاصرون. أطلقوا عليهم لفظ "العوام": لا يستطيعون تنظيم أنفسهم، غارقين في الجهل، يصعب فهم لغتهم التي يروّجون فيها...