الخوف!

يمكن للأمل معالجة الخوف. وأما تجسيد المخارج من الحال المدقع فيحتاج الى "خيال سياسي"، وهذا ليس شعراً بل أداة في العمل النضالي. وغياب الخيال السياسي (الذي تقع على المثقفين مهمة انتاجه وصونه) يُنبئ من جهة بمقدار سوء الحال، ومن جهة أخرى، وخصوصاً، بإفلاس من تقع عليهم المهمة..
2018-09-22

نهلة الشهال

أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي، رئيسة تحرير "السفير العربي"


شارك
أحمد السوداني - العراق

قررت السلطات المصرية مؤخراً ليس فحسب الاستمرار باعتقال شخصيات وطنية عامة هناك اجماع إجتماعي على احترامها، مثل المستشار هشام جنينة والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ومؤخراً السفير السابق معصوم مرزوق، والاكاديميين والكتاب من أمثال هشام جعفر أو اسماعيل الاسكندراني، والفنانين من أمثال المصور شوكان.. بل توجيه تهمة الارهاب إليهم، و..آخر البدع: مصادرة أموالهم.

هناك آلاف المعتقلين في مصر على هذا المنوال، من دون أن يكونوا "شخصيات عامة"، بمعنى المكانة التي نالوها بفضل وظائفهم أو أدوارهم، والشهرة التي تصاحبها. شبان وشابات ممن تجرأوا على الانتفاض في يناير 2011 وظلوا بعدها محتفِظين بروح الحرية، أو اعتقلوا اعتباطاً لسحق تلك الروح ومحوها وليكونوا "عبرة لمن يعتبر". شبان وشابات تجرأوا على سؤال بعض التدابير العادية التي تقيمها السلطات، وآخرهم - وليس أخيرهم بالتأكيد - الطالبتين سهيلة محمود وخديجة بهاء الدين، لأنهما تفحصتا السد الاسمنتي المنيع الذي اقامته السلطات على جزء من كورنيش الاسكندرية والذي يحجب البحر، وذلك في إطار مشروع تخرجهما الجامعي. وهما، ويا للعار، استطلعتا رأي المواطنين، وجرى الشك بأنهما ربما كانتا تَهمّان بنشر الصور الملتقطة للسور على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بغاية "تأليب الرأي العام ضد مؤسسات الدولة، ومحاولة هدمها (...) وتكدير السلم والأمن العام (...) والإضرار بالوحدة الوطنية".. بحسب نيابة الاسكندرية، التي قررت الاستمرار في حبسهما لمزيد من التحريات.

"النكات" من هذا القبيل لا تُعد ولا تحصى في مصر. وهي مبتذلة بل ومُهينة للسلطات التي ترى في أي حركة او نأمة تهديداً لها، فتثبت بذا مبلغ هشاشتها. ولكنها وعلى صعيد آخر تمتلك وظائف حقيقية تتعلق بـإدارة المجتمع بواسطة الخوف. ومن المعروف أن هذا الشعور يدفع الى الانمحاق أو الانسحاق (وتعابير الخوف والسحق أو التسوية بالارض يمتلكان جذراً واحدا في اللاتينية القديمة)، وأن الخوف يدفع للقبول بالعبودية كما شرح الفيلسوف الالماني هيغل. والشعور بالخوف يولد شعوراً موازياً بالاهانة كما يشرح علم النفس الاجتماعي.الخوف، بتعدد تعبيراته، صار مادة للبحث السوسيولوجي بالغ الجدية، الذي لم يعد يركّز أصلاً عليه كأداة بيد الانظمة الاستبدادية، وهي المقاربة الكلاسيكية له في المجال السياسي، بل راح يتفحصه في "الديمقراطيات" العريقة نفسها التي صارت تلجأ إليه (الخوف من الاجانب، من الارهاب، من الاسلام، من النووي، من الاوبئة والامراض القاتلة، من الكوارث البيئية، من فقدان العمل، من الوحدة، وقس على ذلك..) لعجزها عن توفير متطلبات استقرار المجتمع ورفاهه، بحيث صار مواطنوها يتحسسون رؤوسهم خشية كل المخاطر التي تتربص بهم، وبعضها لا يمتلك قواماً مجسداً أو هو عمومي، ولكن لا تتوقف عن بثه مختلف وسائل الاعلام في نشراتها الكوارثية، وكذلك الافلام المليئة بالعنف بشكل خيالي بحت أحياناً أو مستند الى وقائع جرت، يجري تحويرها ونفخها واستخدامها خارج سياقاتها.

.. ذلك أن الخوف ينزلق بمطالبات المواطنين من ميدانها الى مجال آخر، وهو يقوّي لدى السلطات القناعة بأن المخاطَب ينبغي ان يكون "إنفعالات الجمهور"، ما يفسر انتشار الـ"ستوري تيللينغ" والطلعات الهوليوودية (الجيدة والرديئة) التي صار السياسيون يعتمدونها ويوظفون خبراء لتدريبهم عليها..

أثناء التحركات الاخيرة في محافظة البصرة احتجاجاً على تردي الاوضاع المعيشية في مكان - العراق نفسه والمحافظة تحديداً - يمتلك عوائد مالية مهولة، وقعت بعض حالات الاعتداء على البيوت أو المتاجر من قبل عصابات مجهولة الهوية. وهذا أمر يمكنه ان يحدث فعلاً في ظل حال من الفوضى، كما يمكنه أن يستفيد من غض الطرف من قبل السلطات، ومن تضخيم وقائعه في الإعلام.. ومن تنظيمه واختراعه اصلاً. والمبادرة لتشكيل لجان محلية لحماية الاحياء والمتاجر هي الجواب الصحيح الذي وجده الناس، وهي تماماً وحرفياً ما يقارع الخوف المصيب بالشلل والانكفاء والرضوخ. الأمل يمكنه قهر الخوف، وتجسيد المخارج من الحال المدقع يحتاج الى "الخيال السياسي"، وهذا ليس شعراً بل أداة في العمل النضالي. وغياب الخيال السياسي (الذي تقع على المثقفين مهمة انتاجه وصونه) يُنبئ من جهة بمقدار سوء الحال، ومن جهة آخرى، وخصوصاً، بافلاس من تقع عليهم المهمة..

في البصرة، لجأت بعض الميليشيات المسلحة الى إطلاق النار على رؤوس المحتجين كما على أفراد الشرطة، ثم وسعت توظيف الخوف الى بعض الاغتيالات، من مثل ما قيل عن جرحى أو مخطوفين تجري تصفيتهم بطلقة بالرأس، وتصوير لحظة الالقاء بجثثهم من السيارات - وبعضها كانت سيارات إسعاف! - الى قارعة الطريق، وهو سيناريو آخر لإشاعة الخوف ولجم الاعتراضات ودفع الناس لملازمة بيوتها.. و"القبول بالمرّ حتى لا يُذاق ما هو أمرّ منه". وللتذكير فقد شاعت بالماضي جملة شهيرة على لسان صدام حسين: "الخوف زين"!

وقد لا يكون حبس أو قتل. قيل أن السلطات الجزائرية استقبلت 30 الف سوري لاجئ الى البلاد وسمحت لمن يريد بالتسول في الشوارع، بعدما جرى توزيعهم على كل أنحاء البلاد، وأنه اشترط عليهم أن.. يمسكوا باليد الاخرى بجوازات سفرهم السورية! وأن ذلك كان تربية للجزائريين على المصير المخيف الذي ينتظرهم لو هم تمردوا وهزّوا السلطات القائمة - مهما كانوا يعرفون من سوئها - وأنهم وضعوا بمواجهة سؤال قفز الى أذهانهم وأنتم الى أين ستذهبون؟".. هكذا، بكل سلمية. ويمكن الاسترسال على هذا المنوال، والتقاط أمثلة من الأماكن الاخرى لادراك مبلغ تأثير الخوف على التفكير الاجتماعي والسياسي.

يجسد هذا الموضوع إحدى أبرز سمات عصرنا "ما بعد الحداثي" أو المعولم، أي تداخل المجالات والميادين كلها: السوسيولوجيا والسيكولوجيا والسياسة والاقتصاد والطب والبيئة.. العلم والفلسفة. وهو يبيِّن الصلات القوية القائمة بين الديناميات الاجتماعية وأشكال الخوف المتنوعة.

مقالات من مصر

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟

رباب عزام 2024-03-21

يبدو أن السلطة المصرية لن تتوقف نيتها في بيع الأصول والأراضي، ولن تكتفي فقط بما حُسم من صفقات منذ العام 2021، بل ستسعى إلى مزيد من عمليات البيع، تنفيذاً لاشتراطات...

للكاتب نفسه

ماذا الآن؟

وقعتْ إسرائيل في خانة المستعمِر، واهتزت بقوة "شرعيتها" المصنوعة بتوأدة. حدث ذلك بفعل مقدار منفلت تماماً من همجيتها في الميدان وصل إلى التسبب في الصدمة للناس، وكذلك بفعل التصريحات والخطب...