حوار مع محمد بامية: ما الأدوات التي يوفرها الفكر اللاسلطوي لفهم أحوالنا؟

الممارسة بحد ذاتها هي ما ينتج الأمل وهي ما ينتج الإستراتيجية والمنطق. والأمل هو شيء محسوس، وليس فكرة تجريدية. إن لم أشعر بوجوده من خلال التحليل الموضوعي للشروط المعاشة، فالممارسة هي ما سينتجه.
2018-08-23

ياسمين ضاهر

باحثة من فلسطين، تعدّ رسالة دكتوراه في جامعة مونتريال في كندا


شارك

محمد بامية استاذ علم الإجتماع في جامعة بيتسبرغ، الولايات المتحدة الامريكية، ومحرر دورية "مراجعات علم الإجتماع الدولي" (ISR)، وعضو مجلس الأمناء في المجلس العربي للعلوم الإجتماعية. صدرت له العديد من المؤلفات والكتب، منها: "العلوم الإجتماعية في العالم العربي: أشكال الحضور"، "الأصول الإجتماعية للإِسلام: العقل، الاقتصاد، الخطاب"، "غايات العولمة"، "حول الموت والسلطة: الأسس الوجودية للحكم"، و"اللاسلطوية كنظام: تاريخ المدنية الانسانية ومستقبلها".

حاورته ياسمين ضاهر في برلين حول الفكر اللاسلطوي ("الأنركي" Anarchist ) والأدوات التي يتيحها لفهم ما تمر به فلسطين والعالم العربي من أحداث مؤخراً، ومحاولة التأثير عليها.

هناك مدخلان إلى المنطق الاستراتيجي: مدخل تقليدي، يمارسه من درس العلوم السياسية وقرأ ميكافيللي ويهتم أساساً بالمناورات وألاعيب السلطة. وهنا مدخل ثوري، يقرأ اللحظة الثورية بحد ذاتها بشكل متأنٍ، أي يقرأها كأنها وحياً، لأنها تأتي بمعرفةٍ حول القدرة والحرية والأمل لم تكن موجودة من قبل.

نبحث دائما عن الإرادة، عن فعل يُعطي حياتنا معنى. وهذا أهم. البحث عن هذا الفعل في ظروف يبدو فيها العالم جامدا ومُسيطَرا عليه تماماً، وليس هناك مجال للحراك. وعندها يرتبطُ الحِراك ليس بالظروف الموضوعية وإنما بإرادة الإنسان. والإرادة كمفهوم هي شيء منفي تماما في العلوم الإجتماعية الحديثة. لا أحد يتحدث عنه، الجميع يتحدث عن الظروف الموضوعية.

استمرت العبودية لقرون بدون ثورات وبدون محاولة لإنهائها. الخلاص من العبوديّة لم يكن حتمياً، والشيء ذاته بالنسبة للإستعمار. ويحصل أحيانا إستسلام للظروف الموضوعيّة.

ظروف معينة تستوجب ما يمكن أن نسمّيه "حالة روحيّة". يعيش الإنسان في هذه اللحظة دون تفكير بالمستقبل. وهذه اللحظة مهمة جداً للثورات. فمن يصنع الثورات لا ينشغل غالباً بالتفكير كثيراً بالمستقبل

الغريب أنه يتم نسيان الثورة في اللحظة الثورية. في اللحظة التي سقط فيها مبارك بدأ الجميع بالحديث عن الإنتخابات والدستور ومن سيتسلّم سدّة الحكم ودخلنا في مرحلة جديدة، وتم إستبدال سيكولوجية الثورة بالتفكير الإستراتيجي. وهذا كثيرا ما يحصل، تأتي الأطر المنظَّمة، والنخبة، والسياسيين، والأحزاب ويمسكون بهذه اللحظة.

• بدايةً، أي مصطلح عربي هو الأنسب برأيك لترجمة وتداول فكرة الأنركيّة؟

اللاسلطويّة. لأنها أقرب إلى المعنى الأصلي بالإغريقية. هي نظام بدون سلطة. ولهذا من الخطأ ترجمتها بالـ"فوضوية". الفوضوية فوضى أما الأنركية فهي نظام. لا يوجد باللغة العربيّة اعتراف بمصطلح اللاسلطويّة، ولكنّه مفهوم للغاية ولهذا أفضّل استعماله.

• هل ممكن لأنركي أن يُعرِّف نفسه من خلال قوميته؟ فلسطيني مثلا؟

بالطبع. طرحتُ هذا السؤال مسبقا في ورقة بحثيّة حول العلاقة بين اللاسلطوية والقوميّة، أو الشعور بالقوميّة. وعادت هذه الملاحظة للظهور من خلال تناولي للثورات العربية. لا يمكن نفيّ المشاعر القومية تماماً، ولكن السؤال يجب أن يتعلّق بكيفية التعبير عنها. إذا ما نظرنا للقوميّة كفكرة تتطلب دولة وسلطة، فإن ذلك يتناقض مع الفكر اللاسلطوي طبعاً. إنما، ومنذ كتابات الجاحظ، نجد حديثاً عن الحنين إلى الأوطان، وشعور الإنسان بالانتماء إلى موقع جغرافي، أو أسرة، أو بلد، وهو شعور إنساني طبيعي للغاية. إنما ليس هذا هو الشعور القومي الذي يجري الحديث عنه في أيّامنا. كل انسان لديه شعور بالإنتماء لعائلة، وطن أو قبيلة، لإطار إجتماعي معيّن. شعور إنساني طبيعي ولا يعني بالضرورة ان نفهمه بشكل سلطوي. ولكن اذا احتاجت هذه المشاعر إلى دولة وسلطة، عندها تتناقض المشاعر القوميّة مع الفكر اللاسلطويّ.

أما بالنسبة لتعريفي كفلسطيني، فبالإضافة الى الحنين والإنتماء فأن تكون فلسطيني اليوم يعني أن تكون صاحب قضية عادلة تاريخياً. فلسطين بالنسبة لي ليست الدولة أو السلطة، إنتمائي لها ليس كإنتماء أي انسان لأي دولة، إنها إنتماء لقضية عدالة وبالتالي قضية عالميّة أيضاً.

• ما رأيك بالحراك الأخير في غزة (مسيرات العودة وكسر الحصار منذ ٣٠ آذار/مارس)؟ كان هناك شبه يأس من عودة فعّالة للحراكات الشعبية، وركود عام "في القضية"؟ يتناول كتابك "اللاسلطويّة كنظام" الشعور بالأمل، وتقول أن الأمل بحاجة للممارسة، ولكن من أين تنبع دوافع الممارسة؟ أتكون هذه محصلة اليأس؟ ألهذا تتحرك غزة بالذات، لأن الظروف المعيشية هناك أصعب مثلا؟

في التاريخ الفلسطيني الحديث، حصلت كل الانتفاضات المهمة بالنسبة لنا حاليا، في الفترات التي عمّ فيها الشعور باليأس. الإنتفاضة الأولى مثلاً، حصلت في وقت كانت منظمة التحرير منفيّة في تونس، جامعة الدول العربية غير مهتمة بالقضيّة بالمرّة، لقاءها في تلك الفترة كان مهتم بالحرب العراقية ــ الإيرانية لا غير، ولم يذكر فلسطين ابداً، وعام 1987 عمّ شعور بموت القضية وإذ بالإنتفاضة الأولى تفاجئنا. والسيناريو ذاته يتكرر الآن. وفي ستينات القرن الماضي أيضاً، خرجت حركة المقاومة الفلسطينية الحديثة من قلب هزيمة مأساوية، بعد 1967. اذا ما درستِ التاريخ الفلسطيني تجدين أن الانتفاضات الفلسطينية الأهم حدثت بإنتفاء الظروف الموضوعية المناسِبة. من خلال هذه الملاحظات، يتضح خطأ التفكير الماركسي التقليدي، والذي يدّعي لزوم وجود شروط موضوعية للحراك. لقد أثبتت التجربة الفلسطينية ان عكس هذا هو الصحيح. تحدث الحراكات بالظروف غير المناسبة، وهذا ينطبق تاريخياً على العديد من الحركات الإجتماعية.

• اذا ما الذي يدفع الناس للإستمرار والمقاومة؟

نحنُ نبحث دائما عن الإرادة، عن فعل يُعطي حياتنا معنى. وهذا الأهم. البحث عن هذا الفعل في ظروف يبدو فيها العالم جامد ومُسيطَر عليه تماماً، وليس هناك مجال للحراك. وعندها يرتبطُ الحِراك ليس بالظروف الموضوعية وإنما بإرادة الإنسان. والإرادة كمفهوم هي شيء منفي تماما في العلوم الإجتماعية الحديثة. لا أحد يتحدث عنه، الجميع يتحدث عن الظروف الموضوعية، عن الإقتصاد، عن شيء خارج سلطتنا تماما. الظروف الموضوعية تُصوّر على أنها خارج إرادتنا. فبالتالي، العلوم الإجتماعية بشكلها الحالي هي ضد الإنسانية. تحاول قدر الإمكان ان تنفي العامل الإنساني وتستبدله بظروف موضوعية. وهذا بسبب إرتباط العلوم الإجتماعية الحديثة والعلم بشكل عام بالسلطة، وبالسلطة السياسية على وجه التحديد، والإهتمام بفرض سلطات اخرى على الإنسان. سلطة الدولة، سلطة الثورات أو المنظمات، أو سلطة العلم.

• تقول في كتاب "اللاسطويّة كنظام" أن الشروط الماديّة ليست كافية لتجعلك تقاوم أو تمارس الأمل، إذاً ما الذي يدفع الناس للمقاومة؟ لماذا لا يقبلون بالاحتلال أو بالظلم؟ الخلاص برأيك ليس حتمياً، والمظلوم ليس بأخلاقي بالضرورة، ما الذي يدفع الناس للإستمرار إذاً؟

الحراك هو نفسه ما يدعوك للتحرّك، وهو ينتج الأخلاقيات ايضاً. بدون حراك لا يوجد شيء. استمرت العبودية لقرون بدون ثورات وبدون محاولة لإنهائها. الخلاص من العبوديّة لم يكن حتمياً، والشيء ذاته بالنسبة للإستعمار. ويحصل أحيانا إستسلام للظروف الموضوعيّة. في بداية فيلم "معركة الجزائر" نشهد شيئا من العنف الذي تمارسه الثورة على شخص تائه لا يجد طريقه. هذا الشخص يُمثِّل جيل قديم تقليدي وممارسات إستسلاميّة لم تعد تقبل بها الثورة، ولا بد من القضاء عليها ــ بشكل سلطوي طبعاً. الثورة تتحوّل أيضاً إلى جسم سلطويّ. ومن خلال هذه الممارسات تحاول الثورة ان تُغيّر الإنسان وتدفعه إلى المقاومة، بشكل وروح جديدة غير متعارف عليهما. ولكن كل هذا مرتبط أولاً وأخيراً بالإرادة. أنا أشعر أنني بحاجة إلى الأمل، ولكن الأمل هو شيء محسوس، وليس فكرة تجريدية. إن لم أشعر بوجوده من خلال التحليل الموضوعي للشروط المعاشة، فالممارسة هي ما تنتجه. وقد تكون هذه الممارسة خاصة، غير معروفة لأحد، ممارسة شخصيّة. وهذا موجود حالياً في عالم الإنترنت، هناك أشخاص يبحثون عن الأمل بطرقهم الخاصة. الممارسة بحد ذاتها هي ما ينتج الأمل وهي ما ينتج الإستراتيجية والمنطق.

• إذا كان الأمل عبارة عن ممارسة كما تدّعي في كتابك، فكيف يمكن تعميمه؟ ولماذا لا نجد مثيلاً لحراك غزة في الضفة مثلا؟

من الصعب تعميم هذه الأمور بشكل مقصود. خذي على سبيل المثال الثورات العربية في2011، لم يكن أحد يتوقعها. ولم يتوقع أحد أن تنتشر بهذا الشكل. وعلى الرغم من ذلك انتشرت، وتعلمت الناس من تجارب بعضها. كنت في مصر في تلك الفترة، وكان هناك شعور أن حصول الثورة في تونس قد يؤدي إلى إشتعال الثورة في مصر. إن كل الشعوب العربية تعيش تحت أنظمة متشابهة، والشعوب متشابهة. إن أحوالنا متشابهة. وأعتقد أن هذا الشعور بالتشابه غير قائم بين الضفة وغزة، نظراً لإختلاف ظروف كل منهما. طبعا تختلف الظروف الآن عن 1987، حيث كانت الظروف بين هذه الاجزاء متشابهة وبالتالي كان هناك شعور لدى الناس بوحدة المصير.

• هناك من ينظر إلى حراك غزة، وحراكات شعبية اخرى، مثلا هبات القدس، وبلعين، وحراك الداخل ضد "برافر" مثلًا، على أنها لا تُراكِم النضال. ما العمل كي لا تذهب التضحيات سدى؟

صحيح، ممكن ان تذهب التضحيات سدى، ولكن هناك خلط بين ظرفين مختلفين تماماً. هناك التفكير الإستراتيجي، والذي يدّعي أن كل عمل تمارسينه يجب أن يكون جزءاً من خطةٍ طويلة الأمد، وإلاّ فُقِد معناه. وهناك من يصنعون الإنتفاضات والثورات فعلًا، وهؤلاء يعيشون اللحظة ولا يهتمون بالنتائج. عام2011، خلال الثورة المصريّة كنت في القاهرة، كنّا بمحاذاة وزارة الداخلية التي تمركّز على أسطحها القناصة. كان الثوار يقتربون من البناية ليبدأ قتلهم مباشرة برصاص القناصة. تتراجع الجموع بعض الشيء بعد وقوع جرحى وقتلى بين صفوفهم ، ولكنهم يعودون إلى تكرار الإقتراب من وزارة الداخلية بعد ساعة أو نصف الساعة. دون أسلحة، دون أي شيء. كنت أحاول أن أفهم في تلك اللحظة من أين ينبع هذا النوع من التصرف. أنت على يقين أنك لا تملك أي شيء، وتقوم بمهاجمة عدو مُحصّن ومُسلّح ولديه قناصة. وهذا ما يحصل الآن في غزة. نوع الحراك هذا لا يمكن فهمه من خلال المنطق الإستراتيجي الذي يدعوك إلى التفكير قبل أي شيء بالنتائج.

• الا يُضعف هذا المنطق رغبة الناس بالحراك؟

نعم، صحيح. ظروف معينة تستوجب ما يمكن أن نسمّيه "حالة روحيّة". يعيش الإنسان في هذه اللحظة دون تفكير بالمستقبل. وهذه اللحظة مهمة جداً للثورات. فمن يصنع الثورات لا ينشغل غالباً بالتفكير كثيراً بالمستقبل. من يفكر كثيراً في المستقبل، ونتائج كل عملٍ، يتجه غالبًا إلى دراسة الفلسفة وينهمكون بالإنتاج المعرفي، وهذا ما نفعله نحن. لكنّهم لا يصنعون الثورات، رغم التنظير لها أو المشاركة الفعلية فيها. لو جلسنا وفكرنا في كيفية إنتاجها لما كانت حدثت أبداً. حتى أن النشطاء أنفسهم، من رغبوا بالثورة، وكانوا من طلائعها، ونظموا على مدى سنين احتجاجات ضد الأنظمة تفاجئوا بحدوثها. ورغم أهمية نشاطهم إلا ان أغلب من شارك بالثورة في 25 يناير لم يكونوا على دراية بهذا النشاط. أغلب الناس لم تطلب قيادة ولم تطلب استراتيجية. وُجِد شعور بدخول مرحلة تاريخية جديدة. ظهر مفهوم "الشعب" والذي قلّ إستعماله ما قبل قيام الثورات، بل بالإمكان القول انه كان مختفياً. ولكنه عاد وبقوة، لأن مفهوم الشعب عموماً هو مفهوم مُجرد، يصف مجموعة من الغرباء، أشخاص آخرين لا أعرفهم. ولكن تلك اللحظة تحوّل كل مواطن إلى "الشعب". تحوّلت هذه الفكرة المجردة إلى ملموسة. ولفهم هذا التحوّل كان لا بد من أن نعيش اللحظة ذاتها، وننسى الماضي والمستقبل أيضاً. أن نتأمل اللحظة. الغريب أنه يتم نسيان الثورة في اللحظة الثورية. في اللحظة التي سقط فيها مبارك بدأ الجميع بالحديث عن الإنتخابات والدستور ومن سيتسلّم سدّة الحكم ودخلنا في مرحلة جديدة، وتم إستبدال سيكولوجية الثورة بالتفكير الإستراتيجي. وهذا كثيرا ما يحصل، تأتي الأطر المنظمة، والنخبة، والسياسيين، والأحزاب ويمسكون بهذه اللحظة.

هذا لا يعني أن التفكير الاستراتيجي خطأ، فمن الطبيعي أن نحاول دائماً برمجة الحياة الفرديّة والجماعيّة، وهذا ما نفعله في اللحظات العادية، أي غير الثورية. ولكن هناك مدخلان إلى المنطق الاستراتيجي: مدخل تقليدي، يمارسه من درس العلوم السياسية وقرأ ميكافيللي ويهتم أساساً بالمناورات وألاعيب السلطة. وهنا مدخل ثوري، يقرأ اللحظة الثورية بحد ذاتها بشكل متأنٍ، أي يقرأها كأنها وحي، لأنها تأتي بمعرفةٍ حول القدرة والحرية والأمل لم تكن موجودة من قبل. وهذه الرؤية تعطينا فكراً إستراتيجياً موجهاً نحو القدرة والحرية والأمل، وليس حول إستبدال حكمٍ بحكم.

الفكر اللاسلطوي والمسألة الفلسطينية

أعتقد ان الفكر اللاسلطوي مناسب جداً لفلسطين. لقد جربنا الفكر السلطوي بشكله العلماني وبشكله الديني، وبشكله الإعتمادي، أو التوكيلي.. جرّبنا كل شيء. الإنتفاضة الأولى هي أول حراك فلسطيني يتخلى بشكل كامل عن كل هذه المفاهيم السلطوية والتقليدية.. على الرغم أنه تم إستغلالها في خدمة غايات سلطويّة. هناك حيوية لا سلطوية موجودة في المجتمع.

فشل الحلّ العسكري، فإسرائيل لم تستطع أن تفرض هيمنتها وتنهي القضية، وفشل الحلّ السياسي على شكل مفاوضات، حيث أن طرفاً واحداً، الطرف الإسرائيلي، يملك جميع الأوراق، ولا حافز لديه ليتنازل، بينما يفاوض الطرف الفلسطيني فاقداً لأية ورقة ضغط. وفي هذه الحالات تبرز خيارات اخرى من الأسفل، كحركة المقاطعة، وهي حراك ثالث وتعبير عن البحث عن الأمل.

• عودة إلى فلسطين: كيف لا تذهب التضحيات سدى؟

هذا يحتاج إلى قيادة ليست عملية فقط وإنما قيادة تُفكر بشكل أخلاقي. قضيتنا قضية عادلة وليست قضية مفاوضات فقط، أو قضية حصول على تنازلات معيّنة أو تقوية تحالفات أخرى. مانديلا على سبيل المثال، فاوض وهو بالسجن، وهو هناك لم يقدِّم تنازلات. لأنه كان على عِلم أن موقفه القويّ ينبع من أخلاقيّة النضال وليس السلطة. لم يكن يملك سلطة أو جيش. أخلاقيّة القضية هو ما جعلها عالميّة، وما جعل الناس تلتف من حولها. مشكلتنا هي مع النخب التي تستلم اللحظة الثورية وتحاول توظيفها بشكل سياسيّ فتغرق بالسياسة بشكل مباشر وتُهمل الأخلاقيات. تنسى سبب دخولها إلى هذا المعترك. ودائما ما نجد مثقفين أو كتاب يحاولون فلسفة اللحظة الأخلاقيّة. مثلاً، في إحدى قصائده التي أحبها يقول محمود درويش: ما أصغر الدولة (قصيدة درويش "مديح الظل العالي"، وكامل السطر هو: "ما أوسع الثورة / ما أضيق الرحلة / ما أكبر الفكرة / ما أصغر الدولة!). نسينا الثورة وبدأنا بالتفكير بالدولة. والدولة هي مفهوم تافه وغبي وصغير مقابل عظمة القضية. أنا لست ضد القيادات والمنظمات والأحزاب، ولكن الإشكال أن هذه التنظيمات، وفي الحالة الفلسطينية تحديداً، تُركِّز على ذاتها وتصبح هي القضية. تُختزل فلسطين بالتنظيم الذي أتبع له وبمصلحة التنظيم. ويدافع التنظيم عن وجوده كتنظيم، وينسى القضية التي عليه خدمتها. وقد كتب روبرت ميخلس (Michels Robert ) كتابه (Political Parties ) عن هذه الديناميكيّة (The iron law of oligarchy) في محاولة لفهم تحوّل الحزب الديمقراطي الاشتراكي من الدفاع عن قضايا عادلة إلى حزب يدافع عن وجود نفسه كتنظيم. يُلاحظ وجود نزعة لدى التنظيمات أن تبرز من خلال قضية عادلة وتتجه الى الدفاع عن ذاتها لأنها أنجزت شيء. وما الذي أنجزته؟ التنظيم ذاته. القضية لم تحل فاصبح التنظيم هو القضية. وهذا هو حال معظم التنظيمات الفلسطينية.

• قد تكون فلسطين بحاجة جمّة إلى الفكر الأنركي، ولكن من ناحة ثانية قد يجد الفكر ذاته تحدياً أكبر في فلسطين. فمثلا نظرة الأنركية إلى إشكاليات الإنتماء إلى قومية أو عرق، ونقدها الحديث بإسم مجموعات كبيرة من الناس، وإشكال الإجماع، وأيضا إنخراط أعداد كبيرة من النشطاء السياسيين بالسياسة بدوافع بطولية أو توعوية، تنحو أحياناً نحو العصبيّة والتوبيخ والأبويّة وعبادة الرمزية والرموز... في المقابل تبدو كل هذه الأمور ذات أهمية بالذات عندما يكون عدوك قوياً، ويستوجب أن تقاومه بسلاح الوحدة، وبتكتيك سلطوي أحياناً.

ببساطة أنا لا أرى ان هذه المسارات أعطتنا أية نتائج. لقد كنت نشيطاً سياسياً ومنخرطاً بتنظيمات فلسطينيّة، بأكثر من واحد. ولاحظت الجمود أو الفساد. بالذات عندما يتوقف الحراك وتتوقف المقاومة. تخلق فترات الجمود هذه الفساد، وقت فارغ بدون نضال. ينحو الأفراد نحو الإستفادة من اللحظة الآنية، وبإنعدام الممارسة قد يفعلون هذا من خلال البحث عن الإستفادة المادية. يفقد المناضلون أدوارهم في حالات الجمود هذه، يتم إسكاتهم، فيزداد الفساد. المعضلة هي إستمرارية النضال. أن يستفيد الإنسان وتستفيد المجموعة من الممارسة وأن نتعلم منها. بالنسبة لي هذا أهم شيء، التعلّم والعِلم. قضايا العدالة الإجتماعية والإحتلال هي قضايا فكريّة أيضاً وليست قضايا تبحثُ عن حلٍّ فقط. هي تحديّ للتفكير التقليدي السائد. كتبت سابقاً عن العولمة وعن الموت في محاولة لفهم هذه الظواهر، كل الكتب التي بدأتُ العمل عليها إنطلقت من أسئلة لا أجد الإجابة عليها. أو هي عن معضلة وطنيّة أو إنسانية غير مفهومة. إهتمامي بهذه الأسئلة ليس إهتماماً أكاديمياً بحتاً. وآمل ان نحوّل جميعنا المعضلات، والتي تبدو انها غير قابلة للحلّ، إلى مواضيع معرفيّة علميّة، وليست فقط مواضيع بحاجة إلى حلّ سياسي بالشكل التقليدي.

أعتقد ان الفكر اللاسلطوي مناسب جداً لفلسطين. لقد جربنا الفكر السلطوي بشكله العلماني وبشكله الديني، وبشكله الإعتمادي، او التوكيلي.. مثلا اعتقدنا أن عبد الناصر سيحلّ قضيتنا، بحثنا عن بطل وعن منقذ. لقد جرّبنا كل شيء. وبالتالي الإنتفاضة الأولى هي أول حراك فلسطيني يتخلى بشكل كامل عن كل هذه المفاهيم السلطوية والتقليدية. رغم أنه تم إستغلالها في خدمة غايات سلطويّة. هناك حيوية لا سلطوية موجودة في المجتمع، وبداية الإنتفاضة الأولى تدلل على ذلك. ولديك مجتمع تعددي بالأساس، أعاد إنتاج نفسه في المنفى وفي فلسطين دون سلطة ودون دولة. الحيوية السلطوية في المجتمع لا تتعارض مع بناء مؤسسات حديثة ذات طبيعة لاسلطوية تساعد هذا المجتمع على مقاومة الاحتلال وكذلك على تطوير الجزء السلطوي من ثقافته.

• هل هناك اليوم تجربة فلسطينية قريبة من الفكر اللاسلطوي؟ مثلا مجموعات تبادر لأنشطة سياسية غير حزبية. هناك في حيفا ايضا نشاط ثقافي يرفض التمويل الإسرائيليّ، ولكن هناك من ينظر إلى هذه التجارب بكونها هامشية توصف "بالفقاعة"، وأنها غير منخرطة في مجتمعها.

لا يوجد تجربة أنركية لمجتمع بالكامل مئة بالمئة. لا يمكن لهذا السيناريو منطقياً أن يحدث، لأنه وبكل مجتمع سنجد مجموعة من الناس تُفضِّل وجود سلطة ولا تريد الأنركيّة. ويحق لهؤلاء الحصول على سلطة. لا اعتقد أن الأنركية مناسبة لجميع البشر. بالعكس، هي مناسبة لمن يوافق عليها. هناك تناقض طبعاً بتطبيق الفكرة على من لا يريدها. الفكر اللاسلطوي يوّجه فقط لمن يؤمن به. ومن يريد سلطة عليه ألاّ يفرضها على غيره. وبالتالي، نحن لا نتحدث عن مجتمعات كاملة تُطبِّق اللاسلطوية، وإنما عن إتجاهات داخل هذه المجتمعات. قد يزداد هؤلاء او يقلّ عددهم، ولكن المهم ان الأنركية ليست فكرة شموليّة. لا أعرف الكثير عن تجربة حيفا ولكن ممكن أن نفهم التجربة التي تصفينها باعتبارها "مساحة أنركية" (space of Anarchy). حركة المقاطعة مثلا هي نتاج عدم الإيمان بالحلول الأخرى الموجودة، وليس بالضرورة الفكر اللاسلطوي بشكل مباشر. يعني مثلا فشل الحلّ العسكري: إسرائيل لم تستطع أن تفرض هيمنتها وتنهي القضية، وفشل الحلّ السياسي على شكل المفاوضات، حيث أن طرفاً واحداً يملك جميع الأوراق، ولا حافز للطرف الإسرائيلي ليتنازل، بينما يفاوض الطرف الفلسطيني فاقداً لأية ورقة ضغط. وفي هذه الحالات تبرز خيارات اخرى من الأسفل، كحركة المقاطعة، بوصفها حراكاً ثالثاً، وتعبيراً عن البحث عن الأمل. وهي من الأمور التي يستطيع الإنسان أن ينخرط فيها بحياته اليومية بشكل مباشر. لا أنتظر انتهاء المفاوضات أو توجيهات من قيادة أو من تنظيم. وليس من الضرورة أن تُعرِّف حركة المقاطعة نفسها بكونها أنركيّة، أو أن يقرأ أعضائها كتباً عن الأنركية. جزء كبير من الأنركية، هو أنركية غير واعية، وهذه هي التجربة التاريخية للأنركيّة أساساً. من الخطأ أن نرى بالأنركيّة حركة أوروبية بدأت في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، من خلال أشخاص أطلقوا على أنفسهم وحراكهم تسمية "الأنركيّة". ولكن لمئات السنين، وفي كل أنحاء العالم، ستجدين تنظيمات يُطلق عليها مفهوم "المجتمع المدني" ولكنها مجتمعات خارج سلطة الدولة، تعيش ضمن الأمبراطوريات ومتعددة الولاءات.. هذه الظواهر كانت جزء من بحثي عند كتابة "اللاسلطويّة كنظام". كنت مهتماً بالتاريخ الكبير للأنركية، وليس تاريخ الأنركية الواعية لنفسها، وهو التاريخ الأصغر للانركية. وأعتقد أن هناك تشابه مع الواقع الفلسطيني، جزء كبير من التراث التاريخي والتراث الاجتماعي الموجود حالياً، هو تراث غير سلطوي غير واعي لنفسه، وغير منظّم في إتجاهات راديكالية واضحة، وليس بالضرورة مهتماً بالأنركيّة كما وصفتها حالياً.

• لماذا لم ينشأ الفلسطينيون حركة ذات معالم أنركية واضحة؟ كانت هناك مجموعة في فلسطين "أنركيّون ضد الجدار" ولكن غالبيتهم من الإسرائيليين والأجانب (حركة صغيرة وهامشية في المجتمع الإسرائيلي)؟

ما هو غير موجود اليوم، قد يُوجد غداً. الخيار الأنركي غير موجود لأنه إلى الآن بدا أنه لدينا خيارات كثيرة. خاصة اذا ما رأينا إنهاء الإحتلال كمشروع لإستبدال سلطة بسلطة اخرى. هذا هو المطروح حاليا. إنهاء الاحتلال بالنسبة لنا هو إقامة سلطة فلسطينية مستقلة عن الإحتلال. ولكنها سلطة في نهاية المطاف. حلّ الدولتين هو عبارة عن إقامة دولتين. هو أفضل الحلول المطروحة حاليا، بمعنى انه افضل من وجود الإحتلال، ولكنه يعود بنا إلى إقامة سلطة. وحلّ الدولة الواحدة، والذي هو بإعتقادي أفضل من حلّ الدولتين، هو ايضا حلّ يقوم على إقامة سلطة. وأفضل الحلول هو عدم وجود أية دولة. ولكن مفهوم التحرير من الإستعمار، السائد في دول العالم الثالث، والذي استوردناه من التجارب الكولونيالية الاخرى هو بناء دولة. طرد الإحتلال الأجنبي وإقامة دولة مستقلة مكانه، والتي تقوم على أسس السيطرة على المجتمع بإسم المجتمع. من الممكن ان يكون هذا الحلّ أفضل من وجود الإستعمار. فليست كل الدول سلطوية بنفس الدرجة. فهناك درجات مختلفة من السلطوية، وهناك دول تتيح مساحات مستقلة أكبر. ولكن من بعد ظهور الدولة الحديثة تتجه كل الحلول نحو تأسيس سلطة. السؤال إذاً يتعلق بكمية الحرية الأنركية الممكنة تحت أي نوع من السلطة.

• على فترات مختلفة، تعود للظهور حركات سياسية أو مجموعات تكتب تصورها عن فلسطين في المستقبل، وأحد أهم المحاور في هذا السياق هو النقاش حول الدولة الواحدة في كل فلسطين التاريخية. هل تعتقد، من وجهة نظرك كفلسطيني وأنركي، ان هناك أية أهمية لهذا النقاش؟ أم انه، ليس فقط سابق لأوانه، بل قد يحبط ايضا وسائل وسبل النضال، لأنه يُدرجها جميعها في سبيل "بناء الدولة"؟ هناك من يقول انه دون حسم الأمر في اتجاه مطلب الدولة، سنبقى ندور بدائرة مفرغة. أن هناك حاجة لحسم الأمر بإتجاه خطة واضحة ومحددة.

بديل الدولة المستقلة غير واضح. المشكلة الأساسية لدينا هي الاحتلال، وبسبب وجود الإحتلال، هناك استبداد تمارسه مجموعة ضد مجموعة اخرى. فالقضية الأساسية هي إنهاء الإحتلال بشكل أو بآخر. وإنهاء التمييز والحصول على المساواة. والسؤال هو كيفية إنجاز هذه المهام دون بناء سلطة مختلفة، سلطة اخرى. ما يُعقِّد المسألة هو أننا نعيش محاطين بدول سلطوية. الخوف من إنشاء مناطق لا سلطوية، هو محاولة السيطرة عليها من قِبل دولة مجاورة. فبالتالي التفكير اللاسلطوي في فلسطين تحديدا لا يمكنه أن ينظر فقط لفلسطين، لأننا لا نعيش في فراغ. لقد كانت المنطقة (الشرق الأوسط) تاريخيا منطقة مفتوحة للغاية، فقد تفاعلت الإثنيات والعرقيات مع بعضها البعض ولم تشعر ان كل واحدة منها بحاجة لدولة. مشكلتنا هي ليست فلسطين فقط، وإنما الإطار المحيط بها. وكل هذه المشاكل أنتجتها الدول التي تقاسمت المنطقة. ولذا أنا لست ضد الحديث عن الدولة كحلّ. أهم شيء بالنسبة لي هو التعرّف على الفكر اللاسلطوي، بحيث يكون بالإمكان بلحظة قيام الدولة، ان نقيم مناطق غير سلطوية. مجموعات تعمل من خارج حدود الدولة. مناطق يهتم فيها الناس بالحرية الإنسانية. حرية من قوانين الدولة المستقلة أو من الشريعة أو من الضوابط الاجتماعية الاخرى. وهذه الحالة تحتاج إلى وعيّ بالفكر اللاسلطوي ومميزاته. ليس الحل اذاً هو وجود مجتمع لاسلطوي مئة بالمئة، هذا محبذ ولكن من المستحيل إقامته بالقوة. على الناس ان تقتنع بهذه الإمكانية. وعلى الطريق إلى هذا الوعي، فلا معارضة لدي لوجود دولة يكون إنجازها الأهم هو تحرير الناس من الإحتلال، ومن الإستيطان. هذا أفضل من الموجود حاليا. طالما انها تضمن الحريات، وإمكانية للمهتمين بالفكر اللاسلطوي أن يمارسوا حياتهم.

بطبيعة الحال، فكرة الدولة الواحدة هي فكرة ثورية أكثر من فكرة الدولتين، لأن فيها نفيّ لعامل القومية والأحادية، أي أن تملكها اثنية واحدة. هذا بحدّ ذاته إنجاز تحريري، نتحرر من فكرة القومية. تبقى الدولة ولكن مع إنعدام جزء من أيديولوجيتها. تكون دولة فارغة من المحتوى وتُمثِّل كل من يعيش بها، بغض النظر عن دينهم وقوميتهم. هذا أفضل من الموجود حالياً. وهي فكرة مقبولة منعدد لا بأس به من الناس. وهي فكرة مفهومة عالميا، الكل موافق على مبدأ المساواة. وبالتالي دولة واحدة، يتم تفريغها من أيديولوجيتها، تصبح كمؤسسة او نظام إداري، هذا أفضل بكثير من دولة ذات اثنية وايديولوجية وجيش يدافع عن هذه الأفكار. هذا إنجاز بحد ذاته.

• أنت تتحدث كثيرا عن الخيال وأهميته، يبدو ان اليسار عامة والفلسطيني خاصة بدأ يفقد علاقته مع الخيال. هناك تكرار وإعادة إستحضار للحلول ذاتها. أم ان حتى الخيال هو نفسه بحاجة إلى قوة فعليّة، قوة دولة؟

لقد كان هناك الكثير من الخيال في اليسار الفلسطيني. غسان كنفاني مثلا يختلف تماما عن الجيل الموجود حاليا في الجبهة الشعبية. من ناحية الخيال، ومن ناحية قدرته على عولمة القضية الفلسطينية وإعطائها شكل أدبي وشكل روحي. محمود درويش ايضاً، تلحظين أن خياله نمى أكثر بعد 1982. هناك مرحلتين في شعر محمود درويش، ما قبل وما بعد 1982. حتى عام 1982 كان هناك حسّ وطني يسير بالتوازي مع أيديولوجية المقاومة وجميل لغويا، ولكنه محصور ضمن خيال معيّن. ولكن بعدها، وعلى الرغم من ان الحالة الفلسطينية تبدو مأساوية أكثر، إلّا أن الخيال صار متحرّراً أكثر. يصبح شعره عالمياً وروحياً أكثر، رغم وجود الوطنية والقومية إلا انها تظهر بشكل أكثر تعقيداً، وفيه الكثير من الذاتيّة، والأفكار حول تحرير الإنسان كإنسان وليس فقط القومية والمجموعة. كمّ الخيال في شعر درويش بعد 1982 هائل للغاية، على الرغم من وجود القضية في أسوأ أوضاعها. بعد هزيمة 1967، ظهرت روايات تاريخية مهمة للغاية كرد فعل على الهزيمة. عبد الرحمن منيف، ابراهيم الكوني، جمال الغيطاني. هذا خيال أيضاً، نوع روائي جديد لم يكن موجود سابقاً. والرواية التاريخية هي عبارة عن بحث في المجتمع وعن جذور المشاكل ولها طبيعة موسوعيّة. هذا الخيال غير مُنظّم بشكل سياسي. مبادرات فردية أو ثقافية، فالخيال موجود ولكن غير موّظف سياسياً. المشكلة ليست غياب الخيال، وإنما غياب الجماعات العلميّة العربية المُنظمّة. عندما كتبت تقريراً للمجلس العربي للعلوم الإجتماعية لاحظنا غياب الجماعات العلميّة العربية، أو وجودها فقط بشكل رسمي، دون إجتماعات أو نشاط أو إنتاج. هناك غياب للشبكات العلميّة بيننا، وذلك يَحول دون ان نتعرف على بعض وعلى انتاجنا الفكري. فنجتمع في برلين او لندن او باريس، ولكن ليس في العالم العربي. ونحاول في المجلس ان نحلّ هذا الإشكال من خلال تشبيك الناس ببعضها. حتى وان عاد الاكاديميون إلى بلادهم بعد ان درسوا في الخارج فإن ممارساتهم الأكاديمية تبقى مرتبطة بالشبكة العالمية التي درسوا من خلالها، ولا يعرفون الكثير عن زملائهم في الجامعات العربية. ويكتبون ايضا بلغة اجنبية. لا استثني نفسي من هذا طبعاً. هناك غياب أطر معرفية لنكتشف وجود الخيال والبرامج والمبادرات الثقافية المهمة، فنكتشفها من خلال شبكات خارجية.

الفكر اللاسلطوي: حول العالم العربي

كل الثورات تنجح، وكلها تفشل. يعتمد الأمر على النقطة الزمنية التي يتم اختيارها للتقييم. اذا ما توقفتِ عام 1805 لتقييم الثورة الفرنسية، فلدينا امبراطور، مما يعني فشل الثورة. ولكن بعد مئة عام على الثورة فهي قد نجحت. يعتمد التحليل اذا على المرحلة الزمنية التي نتوقف عندها.

الثورات التي تحاول ان تحرر الانسان كإنسان، بشكل روحي، تأخذ احيانا الطابع الديني. بالطبع هناك الكثير من الانتقادات التي يمكن أن توجه لها، ولكنها اهتمت بالتحرير الروحي للانسان وليس ببناء الدولة الدينية. علينا اذاً التفكير بالثورات بشكل يحررها من الفكر السلطوي.

في 2011، ومع انعدام القيادة كنا بحاجة للفكر. كان هناك تقبل واسع من المجتمع وبالذات الشباب، لأنواع جديدة من التفكير، ولكن احداً لم يلعب هذا الدور. أغلب المثقفين تقليديين، فمن كان ماركسي فسّر الثورة بشكل ماركسي، ومن كان إسلامي فسّرها بشكل ديني، والليبرالي بشكل ليبرالي. احتاجت هذه الثورة ــ وبالذات لانها كانت مفاجِئة ــ إلى نوع جديد من التفكير لم نملكه.

• أنت لا تتناول الديمقراطية التمثيلية او النيابية كثيرا في كتابك، مع انه قد يتراءى لمن يقرأ عن الأنركية ان أهم ما يجب ان تقوم به هو نقد الديمقراطية. وبالمقابل، في مقال لك عن الثورات العربية، إقترحت الديمقراطية التشاركية كموديل للعالم العربي؟ هذا غريب أليس كذلك؟ أن يقترح من ينادي بالأنركية الديمقراطية التشاركية كحلّ؟ أم أنك تعتقد ان رسالتك حول الأنركية موجهة بالأساس للغرب، بعد ان عاش ديمقراطيات ثابتة لمدة زمنية، وأن العالم العربي ليس بجاهز بعد!

أولا، الديمقراطية التشاركية أقرب إلى الأنركية من الديمقراطية التمثيلية. وهناك تجارب عالمية فيها، في مدن في البرازيل كبورتو أليغري. والديمقراطية التشاركية تعني أن السلطة ليست للأغلبية لأن الجميع يشارك وله حصة، وهذا هو معناها. ولكن إلى الآن لا توجد تجربة على صعيد دولة، كل التجارب كانت على صعيد مدن. ثانيا، فإن ايديولوجية الثورات العربية ذاتها لم تكن أنركية، حتى وان كانت ممارساتها كذلك. كانت ايديولوجيتها ليبرالية، ومطلبها الأهم هو الدولة المدنية، دولة بدون فساد تضمن الحقوق. وفي مصر تحديداً، هذا كان لبّ النقاش بعد الثورة: من سيحكم الدولة، فالمسلَّم به كان وجود الحاكم. نحن بالتالي بحاجة الى حلّ يتناسب مع الهدف الليبرالي للثورات، فمن الصعب وغير المستحب ان نفرض على الناس حلا لا يرغبون به، وليسوا مستعدين له ولا يعرفون ماهيته. المهم هو وجود ممارسات لا سلطوية يجب الإعتماد عليها. ولكن من الصعب ان نبني عليها اذا لم يكن الناس على استعداد لها، ولم تكن مفهومة لهم كالفكر الليبرالي مثلا، وأفكار الشفافية والمحاسبة والإنتخاب إلخ...

• هل تضيف الثورات العربية شيئا ما لتصورنا حول السياسة؟ معناها، أهميتها، شكلها.. كتبت حنة آرندت مثلا عن إشكالية فهم السياسة كحُكم منذ عقود، وعن أهمية الإنخراط في السياسة. ما الجديد في هذه الثورات؟

التصوّر الأهم هو كون الإنسان العادي له دور سياسي. في مصر، قبل يوم من الثورة، كان بواب العمارة يجيب سكانها عن الأسئلة بالطريقة التي يعتقد انهم يرغبون بها، وسادت نفسية "ال بيه". يوم الثورة يتحوّل إلى انسان آخر، يتحدث عن الكرامة الانسانية والمساواة والظلم. لديه وعي خلقته الثورة. هكذا شعر الانسان العادي: انه وكيل شرعي للثورة. يحق لي ان اقوم بثورة. شعور الانسان العادي بحقه بأن يشارك في السياسة وصنعها. وان يكون له رأي. وقد تعود هذه الفكرة إلى الاختفاء تحت طائلة الظروف الحالية، ولكننا نعرف انها موجودة. لطالما اعتقدنا ان الناس خاملة وغير مهتمة، واذا بها تثبت غير ذلك. الشيء نفسه حصل بين الشباب مِن انهم جيل خامل، غير منتج، واذا بهم جيل ثوري ويتحدث بالسياسة. هناك كم هائل من القدرات المختفية والتي تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر. هذا الانسان الذي برز حينها ما زال موجودا. وان لم يكن موجود في السلطة، او حتى كظاهرة اجتماعية تبرز نفسها حاليا، فهو موجود.

• فكر الثورات بحد ذاته هو فكر سلطوي! عمليا هو فكر يُصوِّر الثورة كإستراحة ما بين نظامين، وأن كل ثورة ناجحة عليها ان تؤدي إلى بناء نظام وعودة الناس لبيوتها. فيقتصر الفعل السياسي على فترة زمنية محددة ومكثّفة وينتهي لتعود السياسية لعبة من يجلس في الحكم أو قمة الهرم! قد تكون اذاً مشكلة اليسار هي تبجيله وحبه للثورات.

هو يصبح سلطوي في النهاية. اذا ما تابعنا سير قادة الثورات نلحظ تغيّراً فيهم، وفي سيكولوجيتهم. ماو الشاب يختلف عن ماو فيما بعد، شخصان مختلفان. تتغير السيكولوجية وفق النظام الذي يقام في نهاية المطاف. هناك نوعان من الثورات، النوع الذي اعتدناه والذي يهدف الى بناء نظام. خلال انتفاضات 1968 في أوروبا قال فوكو لطلابه "مشكلتكم انكم تريدون تغيير نظام بنظام اخر". نحن معتادون على وجود نظام، وهذا ما نعرفه. لا توجد لدينا نماذج لأنواع اخرى من التنظيم الاجتماعي أو السياسي.

هذه إشكالية طرحتها بقوة الحداثة لأنها اقترحت نوعاً محدداً من السلطة. وأن السلطة بحد ذاتها هي طريقك إلى الحرية، المهم ان تكون سلطة ديمقراطية. هذه الفكرة لم تكن دائما موجودة. اذا ما نظرنا الى تاريخ الأديان، وقد تناولت في كتابي الأول بداية الاسلام، فترة محمد، حيث كانت تلك ثورة، لاحظت ان تلك الثورة لم تحاول ان تبني نظاماً، بعكس الفكرة السائدة حالياً. لم تبنِ دولة، والدولة لم تكن الهدف. ولا توجد اي اشارة للدولة الاسلامية في القرآن او الحديث. هذه الفكرة دخلت لاحقا. هذه ثورة أضيفت لها اهدافها لاحقا واُلحقت بها.

الثورات التي تحاول ان تحرر الانسان كإنسان، بشكل روحي، تأخذ احيانا الطابع الديني. بالطبع هناك الكثير من الانتقادات التي يمكن أن توجه لها، ولكنها اهتمت بالتحرير الروحي للانسان وليس ببناء الدولة الدينية.

علينا اذاً التفكير بالثورات بشكل يحررها من الفكر السلطوي.

• هناك من يقول ان الثورات العربية فشلت. أتوافق على هذا؟ أتعتقد ان فشل الثورات العربية كان بسبب انعدام القيادة والتنظيم، يعني فشلها كان لأنها أنركية أو لا سلطوية؟ هناك من الفلاسفة المعاصرين من تبنى هذا الإدعاء كسلافوي جيجيك وآلان باديو، وهو رأيهم ايضاً بالحراك في الولايات المتحدة وسبب فشلoccupy: انه لا يكفي ان تقول ماذا تعارض وما لا تريد، بل عليك ان تأتي ببرنامج واضح المعالم، وحركة تريد السيطرة على سدة الحكم والتغيير للأفضل وليس اجتياح الشوارع فقط. أنت ايضا تتناول هذا الأمر في كتابك، كنقد عام لليسار وتقول انه عادة ما يكتفي بالنقد ولا يطرح خطة عمل لمشروع بديل.

لا أعتقد انه بالإمكان تقييم الثورات بهذا الشكل. كل الثورات تنجح، وكلها تفشل. يعتمد الأمر على النقطة الزمنية التي يتم اختيارها للتقييم. اذا ما توقفتِ عام 1805 لتقييم الثورة الفرنسية، فلدينا امبراطور، مما يعني فشل الثورة. ولكن بعد مئة عام على الثورة فهي قد نجحت. يعتمد التحليل اذا على المرحلة الزمنية التي نتوقف عندها. الشيء ذاته بالنسبة لكوبا، عام 1965 يختلف عن الآن مثلاً. اذا ما نظرنا الى ثورات 1848 في أوروبا، اذا ما نظرت اليها عام 1851 فقد فشلت جميعها وعاد النظام القديم، ولكن بعد عشرين عاماً فقد نجحت جميعها من خلال وضع دساتير وانظمة برلمانية. وهكذا تبدو الثورات العربية مأساوية اليوم، وقد يختلف الأمر بعد 20 عاماً. النقاش حول نجاحها وفشلها هو بالنهاية نقاش بيزنطي.

لقد جرَّبت الناس القيادات، ولم تعد تؤمن بالفكر التقليدي، فالذاكرة التاريخية للشعوب لا تنسى التجارب التي مرّت بها. نحن مجتمعات مليئة بالقيادات. في تاريخ التحرر الحديث دائما ما كانت لدينا قيادات. فالقيادات الطلائعية، اليسارية وغير اليسارية، التي ظهرت في الثورات في القرن الأخير، خذلت الناس ولم تحقق الآمال المرجوة منها، ما جعل الناس تفكر ببدائل أخرى. لقد حدث أمر غريب عام 2011، ثار الناس ولم يطلبوا او يتوقعوا وجود قيادات. بالمقابل ظهر مفهوم الشعب الذي استبدل فكرة القيادة. "الشعب" هو بديل للقيادة، وهو صاحب القرار.

التحليل الذي يقول بفشل الثورات بسبب انعدام القيادة هو تحليل لا معنى له، فالسؤال الحقيقي هو لماذا لم تكن هناك قيادة؟ لماذا لم يهتم الناس بالقيادة من الأساس؟ كانت هناك قيادات محتملة، ولكن الناس لم يكونوا مهتمين بها. وهذه هي النقطة المهمة. وانعدامها في 2011 كان نتاج تجارب تاريخية. جربنا القيادات الرمزية، والقائد المخلِّص، الاشتراكي والديني، وأياً منها لم ينجح. الآن القيادة للشعب، أو شيء يسمى الشعب، ويحرك نفسه بنفسه. وهذه نظرة جديدة، وتثبت ان شيء تمّ تعلمه من التجارب التاريخية السابقة.

بالنهاية تحليل الثورات بهذا الشكل لا يعطينا اية نتائج سوسيولوجية مهمة. الناس لم تكن تريد قيادة. وشعروا ان عظمة اللحظة اكبر من ان تعود إلى شخص او رمز.

ما غاب حقا عن الثورات كان دور المثقفين العرب، وبمصر بشكل خاص فشلوا بالتفكير بشكل خلّاق بالثورة. لم يستطيعوا منح الناس أشكال جديدة للتفكير في السياسة والقيادة والعمل الحزبي وما إليه. لاحظتُ ان معظم المثقفين المصريين تصرفوا كباقي الناس. حملوا الشعارات ذاتها التي تحملها الناس، وان حصلت معارك بين الليبراليين والاسلاميين تجدهم جزء من هذه المعارك. فانعدم دور المثقف الخاص به. على الرغم من أن هذه اللحظة تحتاج إلى أفكار جديدة، وانواع جديدة من التنظير للحراك ومسألة القيادة وما إليه، وهي أمور كان عليها ان تقع على عاتقهم. ولكنهم ضاعوا في الحراك الموجود ودخلوا بالأحزاب والمعارك كما هي. في هذه الحالة بالتحديد، ومع انعدام القيادة، كنا بحاجة للفكر. كان هناك تقبل لدى شرائح واسعة من المجتمع، وبالذات الشباب، لأنواع جديدة من التفكير، ولكن احداً لم يلعب هذا الدور. أغلب المثقفين تقليديين، فمن كان ماركسي فسّر الثورة بشكل ماركسي، ومن كان إسلامي فسرها بشكل ديني، والليبرالي بشكل ليبرالي. احتاجت هذه الثورة، وبالذات لانها كانت مفاجئة، إلى نوع جديد من التفكير لم نملكه. والمعرفة التي نحتاجها لنفهم الثورة هي معرفة تنتجها الثورة نفسها. لأنه لو امتلكنا هذه المعرفة قبل الثورة لكنا تنبئنا بالثورة. الفكر المناسب للثورة تنتجه الثورة من خلال حراكها وليس قبله، لأن الثورة هي ايضاً نوع من المعرفة، وهي أيضاً اسلوب للتعرف على الآخرين.

مقالات من فلسطين

إرهاب المستوطنين في الضفة الغربية تحوّل إلى "روتين يومي"... استعراض عام لتنظيمات المستوطنين العنيفة!

2024-04-18

يستعرض هذا التقرير إرهاب المستوطنين، ومنظماتهم العنيفة، وبنيتهم التنظيمية، ويخلص إلى أن هذا الإرهاب تطور من مجرد أعمال ترتكبها مجموعات "عمل سري" في الثمانينيات، إلى "ثقافة شعبية" يعتنقها معظم شبان...

غزة القرن التاسع عشر: بين الحقيقة الفلسطينية والتضليل الصهيوني

شهادة الكاتب الروسي ألكسي سوفورين الذي زار غزة عام 1889: "تسكن في فلسطين قبيلتان مختلفتان تماماً من حيث أسلوب الحياة: الفلاحون المستقرون والبدو المتجوّلون بين قراها. الفلاحون هنا هم المزارعون....