فكرة

سردية عرب الصحراء وعرب الماء

تنتج الازمات السياسية سلسلة من ردات الفعل الباحثة عن التخلص من أعباء تحمل المسؤولية والمراجعة النقدية الذاتية: هنا عن التنميط بين "عرب الخليج" و"عرب الماء"، سابقاً واليوم، بكل انقلاباته!

موسى السادة | 15 آذار / مارس 2018
دبي والموصل

لا تتخذ أزمة الهوية في الوطن العربي شكلاً واحداً. فالانقسامات العمودية التي تنخر في الجسد العربي لا تنحصر بالمذهبية أو الاثنية، بل تمدد الى العديد من التنميطات البينية المصطنعة، حيث مثلاً ثنائية "عرب الصحراء" في الجزيرة، ونظرائهم "عرب الماء" في الهلال الخصيب، بدأت تأخذ حيزاً  أكبر في الخطاب العام، وفي ظل خطابات و تصورات "ثقافية" معلبة و سطحية. إن جميع هذه التصورات حول الاختلاف بين العرب في المشرق تتجاهل بشكل فج الاسباب الموضوعية للتباين بين المجتمعات العربية على مختلف الجغرافيا، وتغرق في التحليلات الجوهرانية لـ"الذات" و"الماهية"، فتأتي بثنائيات التقدم والتخلف والجهل والتحضر لتصبغها بمجموعة من الاسقاطات التاريخية البالية او السياقات الحالية المجحفة.

السياق التاريخي المختلف

لعب الاستعمار تاريخياً دوراً محورياً في حالة التشوه في البنية الاجتماعية العربية، حيث أن أصل التصورات المقارِنة بين "تخلف" العرب في الخليج وحالة الربط المختزلة بالبداوة والخيام ورعي البعير والنوق.. مع استجلاب صور للفروقات على مستوى البنية التحتية في الخليج أوائل القرن العشرين، وبين التطور النسبي للبنية التحتية وكذلك للعلاقات الاجتماعية في حواضر بلاد الشام في تلك الحقبة، تأتي مباشرة من واقع التمدد الرأسمالي للاستعمار الغربي في تلك البلدان.  فقد كانت ديناميات الاستعمار ومقارعته و التأثر بالمركز الأوروبي وحداثته، جزءاً لا يتجزأ من تاريخ المنطقة. الا ان واقع الاتساع الجغرافي العربي مع تقاسم الاستعمارات لبقع مختلفة منه، و كذلك انتفاء الأهمية الاقتصادية لبعضها الأخر كدول الخليج "ما قبل اكتشاف النفط"، جعلها تلعب دورا هامشياً،. وبناء على هذا تأسست الاختلافات البينية بين مختلف الأقطار، وهي لا تنطلق من اختلاف "ثقافي" بقدر ما هي تشوه في سياق تبلور بناء هذه "الامة".

الجزيرة العربية ككتلة صماء

الا ان هذا الاختلاف الموضوعي لا يفصّل أو يفسر هذه الظاهرة ككل. فالتنميطات المرتبطة بالبداوة والرعي والتي تستخدم لتصوير حالة من الدونية والاحتقار هي بالأصل اختزال فج لطبيعة التركيبة السكانية في الجزيرة العربية، التي يشكل البدو تاريخياً جزءا من نسيجها (كما الحال في بوادي الشام و العراق) بالإضافة الى اجزاء اخرى في حواضر عدة ابرزها الحجاز و العديد من الواحات و التجمعات السكانية التي اعتمدت تاريخيا على الصيد و الزراعة على طول سواحل الخليج العربي والبحر الأحمر. بل ان هذه الاختلافات تمتد داخل المملكة السعودية مثلاً، لتشكل محاور الصراعات الاجتماعية الداخلية بين ذوي الاصول القبلية (سواء من كانوا بدو أم لا) واهل الحجاز الذي لعب الحج دوراً مهم في صياغة تركيبته الاجتماعية، او البحارنة في الشرق وغيرهم. وينعكس ذلك على حزمة الأعراف من مسائل الزواج وتكافؤ النسب وهلم جرا.

انقلاب الصورة

لكن الاختلاف البيني في المجتمع العربي لم يقطع أواصر التأثر بين عرب المشرق. ومع بدء اكتشاف النفط ساهم وصول العمال العرب من مختلف الاقطار في تشكيل البنية البيروقراطية للدول الجديدة سواء من قانونيين أو اطباء ومعلمين، فأثروا بدورهم على  الوعي السياسي لرفاقهم في الخليج بل أكثر من ذلك فقد اختلطت دماؤهم أبان قمع الحركات العمالية في خمسينات القرن المنصرم.

مع تردي الاوضاع الاقتصادية وسياسات التقشف والضرائب الجديدة في الخليج، صعدت عملية البحث عن كبش فداء هروباً من المواجهة الحقيقية مع جذور المشكلة، فكانت العمالة "الاجنبية"  في مرمى النيران.

كان لواقع اكتشاف النفط و تحديدا قفزته مطلع السبعينات، اثره الكبير على المستوى المعيشي لسكان الخليج وعلى الهجرة الهائلة للعمالة العربية وغيرها نحو الخليج الامر الذي انتج واقعا مغايرا يمتد الى يومنا هذا. فقد شكلت طفرة الموارد الطبيعية في الخليج تحولاً حاد على الهيكلية الطبقية داخل الاطار العربي الاوحد، الامر الذي اعطى ثنائية عرب الشمال والخليج بعدا جديدا اخرا، خصوصا مع أن الاقتحام السريع لما بدا نمط اقتصادي رأسمالي لم يقضِ على البنية القبلية أو الذهبية ولم ينقل المجتمع الى اطر اكثر حداثية، بل على العكس اسعت الطبقةات الحاكمة في الخليج الى بقاء هذه البنى واحتوائها داخل هذا النظام خصوصا انها لم تشكل عائقا لفعاليته.

وقد اختلطت تنميطات الرعي والخيام مع صور ناطحات السحاب، و ليمتد الانقسام الطبقي الى داخل مجتمعات الهلال الخصيب الى طبقات عليا ترتبط مع رؤوس المال الخليجية و تتطلع اليها كنموذج و طبقات دنيا عمالية وقعت ضحية الاستغلال في مختلف دول الخليج او حتى تأثرت سلبا بتدفق الاموال الخليجية الى الشام سواء على شكل استثمارات او مال سياسي، لتنقلب الصورة الى مقارنات مختزلة بين صور المدن الخليجية البراقة ونظيراتها المدمرة في سوريا والعراق.

شوفينية صاعدة

للسياسة الخليجية في الاستيراد الكامل لطبقة عاملة من الخارج، شكّل السوريون والفلسطينيون واللبنانيون والاردنيون جزءا كبيراً منها، دوراً مهما في التفسيرات الاقتصادية الشعبوية والجاهلة. فمع تردي الاوضاع الاقتصادية وسياسات التقشف والضرائب الجديدة في الخليج، صعدت عملية البحث عن كبش فداء هروباً من المواجهة الحقيقية مع جذور المشكلة، فكانت العمالة "الاجنبية"  في مرمى النيران.

مقالات ذات صلة

ومع اشتعال الازمات السياسية في المشرق تمّ وضع عرب الماء أو عرب الشمال (وهي التسمية التي تطلقها عليهم جموع الانعزاليين في وسائل التواصل في الخليج) في قفص الاتهام من ابواب "حسدهم من ثرواتنا في الخليج" أو "دمروا بلدانهم ثم أتوا الينا يسرقونا".. وعليه تزايدت وسوم على شاكلة "السعودية للسعوديين" أو "أرامكو للسعوديين فقط"، وربط الجرائم بالعمالة العربية والدعوات للتخلص من الوافدين العرب كسبيل للانتهاء من المشاكل.

خلاصة

دائما ما تنتج الازمات السياسية سلسلة من ردات الفعل الباحثة عن التخلص من أعباء تحمل المسؤولية والمراجعة النقدية الذاتية، والرمي بمسببات المشاكل على الآخرين على شكل اختزالات مبسّطة. والأمر ذاته في المشرق العربي، فمع المستوى غير المسبوق من الدمار الاقتصادي والاجتماعي، برزت "المشرقية الجديدة" كوسيلة للتخلص من عبء الانتقاد الذاتي، عبر القاء اللوم على الصحراء بنَفس استشراقي. وعلى الضفة الأخرى تتلحف الحالة الخليجية بلحاف المظلومية من "استشراق" و"استغلال" مشرقي لها في خلط كبير بدلاص من الوفاء بالحاجة لعملية نقد حادة وجذرية للمنظومة السياسية والاجتماعية الخليجية.

مقالات من الخليج العربي

مقاومة التطبيع في الخليج

يُفترض بالغريزة الأساس التي تُميِّز من يتصدر لإدارة الحكم، أن تُنبِّهه إلى مراعاة تطلعات الناس واحترام القضايا العادلة التي يؤمنون بها، وفلسطين - الناس والأرض والفكرة والمبدأ - في طليعة...

للكاتب نفسه

الإعدامات الجماعية في السعودية

الإعدامات في السعودية، فردية كانت أم جماعية، متشابهة. فقرار الإعدام ليس نتاج آلية عمل جهاز قضائي يمتلك لوائحَ وقوانين تصدر وفقها العقوبة. بل كان ولايزال أحد سبل توجيه الرسائل السياسية...