أشكال الفساد وعقابها المؤجَّل

دخل رجل مكتب تسجيل الولادات وقال للموظف المسؤول: أريد تسجيل ولدي في دفتر الحالة المدنية. الموظف: وما اسم ابنك؟ الرجل: أبو بكر. الموظف: لا. يمنع عليّ تسجيل الأسماء المركبة.  أخرج الرجل 200 درهم ووضعها فوق ورقة ولادة الطفل في المستشفى، فسأل الموظف الرجل بابتسامة كبيرة: "هل تريد أن نسميه أبو بكر ونزيد رضي الله عنه؟". هذه نكتة مغربية عن الرشوة. حين
2015-01-29

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
| en
(من الانترنت)

دخل رجل مكتب تسجيل الولادات وقال للموظف المسؤول: أريد تسجيل ولدي في دفتر الحالة المدنية.
الموظف: وما اسم ابنك؟
الرجل: أبو بكر.
الموظف: لا. يمنع عليّ تسجيل الأسماء المركبة. 
أخرج الرجل 200 درهم ووضعها فوق ورقة ولادة الطفل في المستشفى، فسأل الموظف الرجل بابتسامة كبيرة: "هل تريد أن نسميه أبو بكر ونزيد رضي الله عنه؟".
هذه نكتة مغربية عن الرشوة. حين تدفع تحصل على ما تريد حتى لو ناقض القانون. ويتداول المغاربة نكتاً كثيرة فيها سخرية مريرة من الفساد، تسلية وانتقاماً أيضاً. ومن ذلك التعجّب لأن إحصاء السكان تجاهل طرح سؤال جوهري: "كم من مرة دفعت الرشوة للحصول على حقك؟".
لا تصدّقون النكات؟ طيّب، هاكم الوقائع: 
نشر صحافي مغربي - أنس مزور - قصة محاولة إرشائه من طرف زعيم سياسي. لكن الزعيم أكد أنه لم يحاول الإرشاء إلا لأن صحافيين آخرين قبلوا الهدية. عذر لا لبس فيه. وفي هذه الأجواء نظم فرع النقابة الوطنية للصحافة المغربية بالدار البيضاء ندوة حول "الصحافة والإعلام السمعي البصري الإلكتروني والرشوة". وقال رئيس الفرع إن الهدف هو تحصين الجسم الإعلامي من الوباء، وندّدت الندوة بالصحافي الذي يضع كرامته في المزاد العلني ويخلط بين العمل الصحافي والإعلان، وقد عدّدت توصيات الندوة أسباب هذه الوضعية، وهي قوة المال وتردي أوضاع المهنيين واللهاث وراء الامتيازات والإتاوات وقطع الأرض الشاطئية، وأوصت بضرورة فضح الذين وضعوا أنفسهم في خدمة الفساد وتعهير مهنة الصحافة.
بعد أيام قليلة اختفى الموضوع من صفحات الجرائد، لأن الجسم الإعلامي حساس تجاه الظاهرة. لكن يبدو أننا في المغرب نستكشف منطقة بكراً. فقد جرت العادة، وما زالت، بالنظر إلى الصحافي كبطل.. وهذه رشوة في قلب السلطة الرابعة. وعلى العموم فالصحافيون حذرون جداً في الحديث عن الفساد بدقة لأن القضاء يطالبهم هم بإثباته، أي تتم مكافحة الفساد عبر قطع الأصبع الذي يشير للمتهم. 
في انتظار تغيّر الوضع، هذه أشكال الرشوة حسب الصحف: 
الرشوة النقدية هي أكثر أشكال الفساد انتشاراً. وقد صوّر قناصة بالكاميرات رجال شرطة ودرك يقبضون. التحقيق مع 25 دركياً في قضايا رشوة. هذه جرائم الموظفين الصغار ويسهل إثباتها وهي تحتل الصفحات الأولى للجرائد. وهناك الفساد في الصفقات العمومية. وفيه لا يظهر مَن قبض ولكن الأدلة تُعمي، مثل هذا: الأمطار تكشف شقوقاً وتصدعات تهدد بناية مجلس المستشارين. كم عمر البناية؟ ثلاث سنوات. ومثل هذه الحالة في الطرق والقناطر والمؤسسات التعليمية. وهناك فساد من نوع آخر: لجنة تفتيش بكلية آسفي تحقق في تزوير العلامات في شهادة الماستر. وبرلمانيون يتقاضون تعويضاتهم رغم اعتقالهم. والتحقيق في الاستيلاء على عقار باستخدام هوية شخص ميت. ومتابعة موظف بالسجن سرب مخدرات للسجناء. حاميها حراميها. وهناك سلوكيات فساد تحتقر الناس مثل وزير استأجر سيارة بأكثر من ثمن شرائها، وآخر اشترى قنطار شكولاتة لأمه من مال الوزارة... 
في كل هذه الحالات، لم تثر أخبار الصحف أي تغيير، ويعلِّق المغاربة على توالي الوقائع بالقول "عفا الله عما سلف"، وهي جملة قالها عبد الإله بنكيران لاسترضاء مهربي الأموال للخارج، واعتبرها المغاربة تشجيعاً للفساد. تعقيباً على تواتر هذا، قال محلل سياسي إن ما يبعثُ على القلق هُو تحوّل المغرب إلى "دولة رخوة" لا يهابها أحد، بحكم عدم خضوع المسؤولين فيها عن الفضائح وملفات الفساد للمحاكمة التي تبتُّ في أمرهم، كيْ لا يفلتُوا من العقاب، علماً أنَّ الدستور يربطُ المسؤوليَّة بالمحاسبة.
تنبعث من هذه الرخاوة رائحة عفنة تتجاوز حدود البلد. إذ كشفَ تقرير لمركز أميركِي أن الأموَال تهرّب من المغرب نحو الخارج بصورةٍ متزايدة، وقد وصلتْ إلى عشرة مليارات دولار ما بينَ 2003 و2014. يؤمن المهرب نفسه ويردد "الفلوس هي رُكبك". من أين جاءت هذه الأموال المهربة؟ صنَّف تقرير حديث للبنك الدولي للإنشاء والتعمير والمؤسسة الدولية للتنمية، المغرب من ضمن أكثر عشر دول اقتراضاً في العالم سنة 2014. لتصبح بذلك الدولة الأكثر مديونية في منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط. تدخل الأموال من الباب وتخرج من النافذة. 
آخر حلقة في مسلسل الاستدانة والنهب والإرجاع ذكْر رئيس الوزراء أن تصريحات مهربي الأموال للخارج تزيد عن ملياري ونصف مليار دولار. وقد صرحوا بها مقابل وعد حكومي بعدم متابعتهم وفرض غرامات عليهم إن أرجعوا الأموال لتخزينها في بنوك مغربية. ولتطمئن نفسي عن مستقبل البلد سألت في باب قاعة سينما مناضلاً نشيطاً في جمعية "ترانسباريتي" المغرب (الشفافية): في أي سنة سيقضي المغرب على الرشوة؟ نظر إليّ باستغراب لهذا السؤال المُغرِب في الغباء. أجاب: لست منجماً. سألته من جديد: وهل سيقضي المغرب على الرشوة؟ أجاب: "هذا متعلق بهؤلاء!". وأشار إلى المتفرجين الذين يغادرون القاعة. 
يبدو سؤالي خاطئاً لا وجود له. سؤال يفترض احتمالاً بينما دعاة الشفافية الواثقون تماماً أنه لا يوجد أي احتمال لقضاء المغرب على الرشوة المتجذرة في لحم الإدارة وعظمها. تم التطبيع مع الرشوة التي صارت هيكلية لا فيروساً أصاب النسق الإداري. وللمغاربة تعابير راسخة في وصف الفساد: الأصبع الذي ألف لحس الصحن لن يستقيم. من كانت جدته طباخة في العرس سيأكل اللحم. لا بد لمن ألف جني العسل من لحس أصابعه. من يلحس مراراً يشبع ويغتني و "يفيض الخير" عليه. 
لهذا تواجه محاربة الرشوة عوائق عدة منها: 
أولاً، لا يشعر الناس بوجود إرادة سياسية حقيقية لمكافحة الفساد. وينظر لكل محاولة تحقيق كتصفية حساب أو مطاردة للأفاعي قد تقود لما هو غير متوقّع.
ثانياً، النظرة السلبية لبعض رافعي شعار مكافحة الفساد. يبدون كأنهم يريدون أن يكافحوا الفساد بعد أن اغتنوا منه. ويشكل وجودهم طلقاء يتباهون بثرواتهم إهانة وعائقاً أمام أي تعبئة وطنية لتحقيق نهضة اقتصادية. 
ثالثاً، يعطي المغاربة الرشوة بفعل الضرورة والعادة أيضاً، لا يتوقعون قضاء مصالحهم تلقائياً، يرون أنه لا بد من "الدهن". في كثير من الإدارات الفساد ضرورة للتسيير ومن "منشطات الإدارة" أيّ مما يحمّس الموظفين.
رابعاً، يتوهم مانح الرشوة الاضطرارية لشراء الحق أنها صدقة سيحصِّل الراشي المضطر أجرها في الآخرة.
خامساً، وهو العزاء الأهم لمقدم الرشوة، فهو واثق أن آخذ الرشوة لن ينجو. بل سيُصاب في نفسه وماله وولده. ويتجلى فساد الذرية في إدمان المخدرات والموت المريع والمفاجئ والمرض المزمن الذي لا علاج له.. وليست هذه تمثلات شعبية فقط، بل ذكرها ابن خلدون في مقدمته قائلاً إن "في تعلق النفوس بمالها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً"، وإن الفاسد والمحتكر "تجتمع القوى النفسانية على متابعته فيفسد ربحه". وطبعاً فالمرتشي حسب التصور الشعبي سيُهان في شيخوخته وسيدخل جهنم. وهذه عاقبة المُفسدين في الآخرة. المشكل أنه حين سيحلّ هذا العقاب فهو لن ينفع خزينة الدولة وسيكون قد فات الأوان. فميزانية الدولة لا تستطيع انتظار الانتقام من لصوص الشعب يوم القيامة.

 

للكاتب نفسه