الرومانسية في مزبلة: "كاريان بوليود"..

يقترب الحبيب من حبيبته. تركز الكاميرا على الوجهين الشابين. توشك الشفاه على سقي بعضها بالريق. ينتظر الجمهور الحدث فيسيطر الصمت على القاعة. نسمع خوار بقرة. يتغير الكادر فنرى الحبيبين وسط فضاء صادم. كان ذلك لقطة من فيلم "كاريان بوليود" للمخرج المغربي ياسين فنان. بوليود هي هوليود الهند، فما هو الكاريان؟ وما العلاقة بينهما؟ مزابل وحمير وأكواخ وأزقة محفّرة، أغنام قذرة تتغذّى مما
2015-04-30

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
هبة أمين-مصر

يقترب الحبيب من حبيبته. تركز الكاميرا على الوجهين الشابين. توشك الشفاه على سقي بعضها بالريق. ينتظر الجمهور الحدث فيسيطر الصمت على القاعة. نسمع خوار بقرة. يتغير الكادر فنرى الحبيبين وسط فضاء صادم. كان ذلك لقطة من فيلم "كاريان بوليود" للمخرج المغربي ياسين فنان. بوليود هي هوليود الهند، فما هو الكاريان؟ وما العلاقة بينهما؟
مزابل وحمير وأكواخ وأزقة محفّرة، أغنام قذرة تتغذّى مما تجده، مجاري ماء صرف صحي تبحث عن مسالك أمام الأبواب وأطفال حفاة يجرون وشبان غاضبون في الزوايا ونساء يمضين مسرعات ومشهد يسبب الغمة.. هذا هو "الكاريان" تقريبا. لا تقبض الكلمات على المشهد بالضبط ولا تستوفي الألم الذي يسببه.
يصور فيلم "كاريان بوليود" الرومانسية في مزبلة. إنه أثر قانون المكان على البشر. ما هي الرومانسية؟ هي التحمل البطولي للألم من أجل الحبيب/ة حتى على حساب النفس. للوصول للحبيبة هنا، يستخدم بطل الفيلم السينما كصنارة. تسهِّل السينما تفاهم العشاق. السينما قنطرة حب.
يقول البطل لحبيبته أنه يريد تصوير فيلم ويحتاج ممثلة جميلة كبطلة. تقبل بسعادة ويقوم صديقه بدور المنتج. يتحدّث عن أماكن التصوير وعن التكاليف وعن تجهيزات الإضاءة. أثناء عرض الفيلم كان جمهور الطابق السفلي يضحك بشدة نظرا لتطابقه وتشابهه مع المنتج النصَّاب الطارئ على الميدان. وهي سخرية مبطنة من استسهال الكثيرين اقتحام مجال السينما في المغرب، وهم يفتقرون لثقافة سينمائية. الطابق السفلي فيه النخبة. أما الجمهور العادي في الطابق العلوي فكان يضحك من العنف اللفظي في الحوارات التي تكشف حلم شباب مغرب اليوم: حبيبة وغرفة. الحبيبة موجودة والغرفة معدومة. يحلمون بخلوة وطاولة مملوءة. هذا حلم بسيط لا حلم طبقي. الحلم سلاح العاجزين. الحلم في قاع البؤس. الرومانسية في المزبلة.

هل يعرف الفقراء الرومانسية؟

ربما يعرفونها أكثر من المترفين الذين يعيشون الرومانسية فعلا ولا يحلمون بها. وما زاد من مصداقية الفيلم اعتماد المخرج على شبان الحي الذي صُّور فيه. حين حضر هؤلاء مهرجان طنجة وساروا على البساط الأحمر وتصرفوا بفخر، تناسوا للحظة أنهم أبناء الكاريان.
يستمد الفيلم قوته من نظرة المخرج لأبناء الكاريان بشكل محترم. لم يعاملهم باعتبارهم "بوزبال"، ولم يصورهم من فوق. لم يصور بوزبال في مزبلة. بل يصور الإنسان مضطرا للعيش في مزبلة . ويعتبر وصف شخص ما بأنه "ابن الكاريان" شتيمة لما تحمله صورة ساكن "الكاريان" من سلبيات اقلها استخدام معجم "ساقط". حين شاهد الشبان أنفسهم على الشاشة وسمعوا معجمهم لم يشعروا بالعار. لكن حين مناقشة الفيلم لامهم ملاحظ طُهراني على معجمهم. كان هذا هو حكم الجاهل بقوانين المكان. فردوا عليه بأنهم أثناء التصوير جربوا حوارات بلغة نظيفة فشعروا بالتفاهة واللاواقعية. لذلك استخدموا معجمهم الحقيقي. مهمة السينما هي أن تعري الواقع لا أن تجمله بالماكياج. لذا وفي كل مرة يغرق المتفرجون في الرومانسية، يذكِّرهم صوت البقرة بالواقع. هذا الواقع المشبع بالمفارقات والتناقضات التي تشعِّب أبعاد الفيلم. فهناك سخرية من وضع السينمائي في المغرب. وهناك حكاية علاقة الشبان بالسينما الهندية، وهناك سوسيولوجيا التلقي التي تتناول طريقة تفاعل الجمهور مع الفيلم.
يغضب المخرجون بسبب الاقتصار على التناول السوسيولوجي لأفلامهم. عادة تهتم السوسيولوجيا بالمحتوى فقط ونادرا ما تستنطق الأشكال. يقدم فيلم "كاريان بوليود" قصة متماسكة تحترم قوانين التلقي، بخلاف أفلام لكتاب سيناريو طارئين على السرد يبدؤون بالفلاش باك. يبدؤون بالرقص قبل تعلم المشي فيسقطون في حفرة. وهذا درس لكل سيناريست: تعلم حكي قصة قبل الانتقال للتفلسف. لقد تعلم بيكاسو الرسم وبعدها انتقل للتكعيبية. القصة المتماسكة مهمة لأن المغاربة يشتكون أنهم لا يفهمون قصص أفلام مخرجيهم لأنها غير مبنية، وليس لها نهاية. يردد المتفرجون بسخرية "نهاية لا علاقة".
لقد تفاعل المتفرجون مع فيلم "كاريان بوليود" ــ وهو ليس تحفة فنية على كل حال، لكنه متن سوسيولوجي ملائم ــ لأنه يستثمر التأثير العميق للسينما الهندية في وجدان المغاربة. فالفيلم الهندي يعرض حلما قابلا للتحقق، وهو حلم الوصول للحبيبة. لا مكان للشك بالبطل في الفيلم الهندي. لذا رسَّخت السينما الهندية مكانتها خاصة في الأحياء الشعبية التي كان متفرجوها يبكون من فرط التأثر. ويرجع تأثيرها في وجدان المتفرج المغربي الى:
أولا قصة مفهومة من تلقاء ذاتها، بلا تعقيدات، قصة شعبية مع كثير من العواطف الجياشة. وهذا نتيجة تراكم تراث سردي شفوي عريق، شكل أصل كليلة ودمنة، والفيلم، أي فيلم هو سرد أساسا. ثانيا قصة فيها غرام وانتقام. غرام في الحقول وليس في السرير، وهذا ملائم للحياء الشعبي الإسلامي. ثالثا إخراج وظيفي، فالمخرج يهتم بسرد القصة وفهمها أكثر مما يبحث عن التجريب وابتكار كادرات جديدة. رابعا التصوير في فضاءات تسمح للمتفرج بالقيام بالسفر في الهند من خلال أفلامها، فيتصور المتفرج البسيط أن الهند كلها حدائق. خامسا وضوح شديد في رسم الشخصيات الخيّرة والشريرة. يعرف المتفرج الظالم والمظلوم. وهذا يروي تعطش المشاهدين للعدالة. سادسا استخدام أغاني ورقصات مصممة لتخدم القصة وتبين اتصال البطل بالبطلة بعفة. سابعا الاعتماد على ممثلين وسيمين يمتِّعون العين ويتماهى معهم المتفرج بسرعة: يشعر ابن الكاريان أنه أميتا باشان أو شاه روخان. ثامنا نظرة رومانسية للعالم. نظرة واثقة لا تخترقها أي شكوك. فالخير موجود في العالم وبين البشر. تاسعا تَحقّق الحلم. فالنهايات السعيدة مضمونة. وهذا تحقيق لحلم المتفرج الذي عجز عن الوصول إليه في الواقع. عاشرا احترام شديد لثقافات الشعوب وعدم صدم الوجدان الجمعي للعامة.
لقد أسعدت هذه الوصفة الفنية ملايين المغاربة، لذا استعادها فيلم "كاريان بوليود"، مع إضافة خوار البقرة غير المقدسة والذي يلعب دور المنبه في تذكير الحالمين بحقيقة المكان الذي يعيشون فيه. إنهم في الكاريان الذي تستره السلطة بسور لكي لا يُظهر العار. ارتبط الكاريان بالبؤس بمدينة الدار البيضاء، حيث للكلمة ثقل تراجيدي. حتى أن للكاريان حضور كبير في الأدب المغربي كما في مسرحية عبد الكريم برشيد "ابن الرومي في مدن الصفيح" الصادرة في 1975، ورواية أحمد المديني "ممر الصفصاف" الصادرة في 2014.
لم يكن بالإمكان تصوير هذا الفيلم في المغرب في السنوات الماضية لأنه قد يُقدِّم صورة غير مشرفة عن أجمل بلد في العالم حسب التلفزيون الحكومي. أما وقد صور الفيلم فهو ينتهي بالجرافات تهدم الحي الصفيحي بحراسة البوليس. ستنقل الدولة السكان المحظوظين لعمارات جديدة. اختلطت مشاعرهم بين عالم يُهدم وعالم يبنى. لكن الحنين أقوى. بعد عام من السكن في فضاء عمودي سيكتشفون بؤسا حديثا.
في الواقع بنيت آلاف العمارات، ومع ذلك نشأت عشوائيات جديدة بسبب الهجرة القروية الكثيفة إلى الدار البيضاء. لذا لا جدوى من إزالة العشوائيات بقرار إداري ينفذه البوليس. سيكون ذلك سحقا لنمط عيش آلاف الأشخاص. البديل هو وضع برنامج طويل المدى يطرح بدائل فعلية لسكان الارياف كما العشوائيات.. وحينها ستنقرض العشوائيات ذاتيا. لن يحتاجها الفقراء. هذا حلم لن يقاومه خوار البقرة.

 

للكاتب نفسه