بلاغات لتدبير عمارة فاشلة

صدر البلاغ رقم واحد في العام الأول من السكن بالعمارة. وبموجبه انعقد لقاء ستة عشر مقيما. كان ذلك المؤتمر التأسيسي. وقد قُرئ فيه قانون نظام الملكية المشتركة المحددة لحقوق والتزامات الشركاء في العمارة. ومن أهم البنود: ممنوع ترك ما يعرقل المرور في المدخل. ممنوع لعب الأطفال في الفضاءات المشتركة، ممنوع امتلاك الكلاب التي تطرد الملائكة، ممنوع النشر على الشرفة ورمي الزبالة وتغيير الأجزاء المشتركة دون
2015-06-11

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
إدريس وضّاحي - الجزائر

صدر البلاغ رقم واحد في العام الأول من السكن بالعمارة. وبموجبه انعقد لقاء ستة عشر مقيما. كان ذلك المؤتمر التأسيسي. وقد قُرئ فيه قانون نظام الملكية المشتركة المحددة لحقوق والتزامات الشركاء في العمارة. ومن أهم البنود: ممنوع ترك ما يعرقل المرور في المدخل. ممنوع لعب الأطفال في الفضاءات المشتركة، ممنوع امتلاك الكلاب التي تطرد الملائكة، ممنوع النشر على الشرفة ورمي الزبالة وتغيير الأجزاء المشتركة دون موافقة المالكين الآخرين. يساهم الجميع بقسط شهري محدد يدفع في الثلاثين من الشهر، وعندما تقع خسائر يتحمل كلفتها المتسبب فيها.. البند الأخير في البلاغ: الحالات غير المقررة والمسائل التي لم تقرر بهذا القانون يفصل فيها حسب الأعراف المحلية. كتب البلاغ بمعجم قانوني يفترض أن السكان ملائكة، وتمت المصادقة عليه بالإجماع. وفورا تم انتخاب ممثلي السكان لتدبير الشأن المشترك في العمارة. تشكل مكتب يلقب هنا "ألسنديك" (وهي كلمة فرنسية) من خمسة رجال أهمهم أمين المال والرئيس، وهو الأكبر سنا على فرض أنه الأكثر عقلا. وفورا طرح سؤال: من سيختار البواب؟ هذا ليس مشكلة. اختار ألسانديك بوابا شابا خدوما. المشكل أن البواب الشاب الأعزب هو مصدر خطر للذين أكملوا عشر سنين زواجا.
صدر البلاغ رقم اثنين بعد أربعة عشر شهرا. وفيه تأكيد على القيام بالصيانة وتجديد البوابة وتنظيفها وتغيير المصابيح المعطلة. مشكل صغير: جرى تجديد المدخل وصبغ الباب وجدران السلم أولا، وعندما تعطل المصعد لم يكن هناك مال. هذا علامة على خلل في الأولويات..
بعدها اتضح أن هناك من لا يدفع نصيبه الشهري. طبعا يوافق الجميع على الدفع. لكن حين يتعلق الأمر بالنقود فإن الأعمال لا تلي الأقوال. في الاجتماع تحدث أمين المال عن المماطلين من دون أن يذكر اسما. وفي النقاش ظهر مشكلان، المشكل الأول كثرة الإصلاحات يومي السبت والأحد لتوسيع بلكونة أو إعادة تزليج المطبخ.. وترمى أكياس الرمل في باب العمارة لعدة أيام وهذا يضر بجماليات المكان، ثم ظهر مشكل نشر ملابس مبللة أو سقي الورد في الشرفة مما يؤذي المارة. وهذا موضوع سماه صنع الله إبراهيم مسيرة "الهدم والبناء" في رواية "ذات". في هذه المسيرة يحصل أن يشرع جارك في ساعة القيلولة في كسر جدار في شقته من أجل تغيير الديكور.
المشكل الثاني هو أن البواب لم يعد يعجب بعض السكان. فهو وبفضل أذنه وعينه اليقظة يملك أسرار العمارة. لذلك تم تعيين بواب عجوز له خبرة، وهو بواب جيد يستمع للجميع ولا ينقل الآراء ولا يتورط في اصطفافات ويتحمل محنة الحياد.
صدر البلاغ رقم ثلاثة بعد عام. ومن جديد فالنقود تقرر، فقد تأخر أداء المساهمات فرحل بواب العمارة. طالب البلاغ بضرورة الأداء وبوضع مقاييس لاختيار بواب جديد للعمارة. في النقود وافق الحاضرون على الدفع، وظهر أنه لا بد من مسيِّر وقح ليطرق الأبواب لجمع المساهمات. من يستطيع أن يضع مقاييس البواب ثم يطلب أن تكون موضوع إجماع؟ هنا لم يعد التصويت مفيدا لا بالأغلبية النسبية ولا المطلقة.
إليكم البلاغ رقم أربعة بعد عام آخر:
"يجب على سكان العمارة المحترمين تأدية الواجب الشهري.. جميعا من أجل الاستمرارية".
مع الزمن صارت مشاكل العمارة أشبه بمشاكل دولة صغيرة فاشلة، بدأ الأطفال يلعبون في الفضاءات المشتركة، فصار عقد اجتماعات السكان مستحيلا وصاروا يتجنبون اللقاء في السلم. والتفسير الذي قدمه "السانديك" هو أن نساء العمارة صرن يتحكمن في رجالها.
تفاقمت مشاكل العيش المشترك وصعبت إدارة المشترك المادي لأن المشترك اللامادي هش. مع تقادم الزمن، يعرف الجار أكثر مما ينبغي عن جاره فيصير العيش الجماعي محنة. ولهذا عمق اجتماعي.
في بوادي المغرب يبني كل فلاح مسكنه على أرضه. ونادرا جدا ما تكون المساكن مجتمعة. وهذا التعود على العزلة يجعل حفيد الفلاح يواجه صعوبات كثيرة حين يسكن العمارة. عليه محنة تدبير المشترك المادي في غياب المشترك اللامادي. هكذا تجبر العمارة أشخاصا لا يجمع بينهم شيء على التعايش مع الجهل أو سوء الفهم المتبادل. وهذا ما يسميه بيير بورديو "فضاء وجهات النظر المتنافرة دون أي استعداد للتنازل والتسوية".
في هذا الوضع بدأ العرف يعمل أكثر من القانون. صار السكان تحت الغريزة لا تحت مطالب الفكر. لذا كان البلاغ رقم ستة يطالب بالأمن والنظافة. بلاغ شكاوي من الزبالة. ثم بقي باب المدخل مفتوحا فشعر السكان أن سلامتهم مهددة. وهكذا تسامحوا مع الزبالة وأكدوا على ضرورة أن يغلق كل فرد الباب خلفه. ثم جاء بلاغ ستة مكرر يطلب التأكد من إغلاق باب العمارة. ثم حصل حادث فظهر بلاغ يكرر التكرار "المرجو منكم إغلاق باب العمارة بلطف كي لا ينكسر مرة ثانية".
طبعا توجد اختلافات بين العمارات في درجة الفشل. كلما كان دخل السكان منخفضا زادت المشاكل، المال يصنع سعادة الجدران والبشر. في العمارة الشعبية صار عمر الأطفال عشر سنوات وكثروا، لا يستطيع السانديك توبيخ أي طفل. أحيانا يقف الشبان في باب العمارة ويدخنون وقد يلعبون القمار. هكذا يتقدم العشوائي ليبتلع الفضاء المنظم سابقا.
لقد تآكل التعاقد مع الزمن، فحل العرف محل القانون فكثرت الانحرافات، في أحد أعياد الأضحى نشر جلد كبش على البلكونة فسال الدم على الجدار. من جهته عمد صاحب محل أسفل العمارة لإجراء تعديلات فشعر الجيران في الطوابق العليا بالرعب، فهو يجري ترميمات كبيرة دون علم الجيران: في حزيران/يونيو 2014 حصلت ترميمات في عمارة آيلة للسقوط بحي بورغون في الدار البيضاء فقتل 23 شخصا وجرح 52. من الصعب تصليح مبنى آيل للسقوط. غالبا سينهار على رأس مصلحيه.
مرت سنة ونصف، في الحقيقة البلاغ السادس هو حزمة بلاغات متتالية، وهنا نميز بين بلاغات وجهها السكان لبعضهم البعض، وبلاغات وجهوها للسلطة ضد بعضهم البعض. صار السكان يطلبون تدخلا خارجيا لحل مشاكلهم.
العمارات الفاشلة مثل الدول الفاشلة تكثر فيها النزاعات الشفهية واليدوية ويسهل التدخل في حروبها. في الغالب تشهد العمارة نوعين من الحروب: حرب بين الشقق، وحرب داخل الشقة الواحدة. النوع الأول صار نادرا وغالبا ما يكون بسبب الأطفال. أما النوع الثاني فدائم وهو صورة مصغرة للحرب الأهلية التي تجري داخل الدول.
يرفض الساكن في الطابق الأول دفع مصاريف إصلاح المصعد. يرفضون قرار السانديك سواء اتخذ بالأغلبية البسيطة أو المطلقة. حينها لم تعد الاجتماعات تنعقد. تعطل برلمان العمارة فصارت عمارة فاشلة. لم يعد الكلام مجديا فلجأ السكان للتواصل بالبلاغات الفردية لا الصادرة عن السانديك. بلاغات بلا عدد مكتوبة بخط اليد وليست مرقونة مثل "من اجل سلامتنا المرجو إغلاق باب العمارة". حينها اصدر السانديك بلاغ تخليه عن مهمته، وقد أعلن أن الجميع مسؤولون. مسؤولية الجميع تعني مسؤولية لا أحد.
إليكم البلاغ رقم مجهول:
"باسم الله الرحمن الرحيم، على كل فرد الالتزام بنظافة العمارة لنكون قدوة لأولادنا فإن النظافة من الإيمان واعلم إن لم يرك احد فإن الله يراك".
بلاغ ختم بالتهديد الإلهي طبعا، فالله يرى يوميا ما يجري في باب العمارة.
استمعت إلى بواب غاضب فقد عمله ومسكنه بسبب صراع الجيران، يرفع أكف الضراعة إلى الله ضد من شرده. ثم سألته: وما الحل؟ أجاب: يجب أن يذهب السانديك عند أوباما في الأمم المتحدة الأميركية. سألته: تطلب من أوباما قصف العمارة؟

 

للكاتب نفسه