كيف كان الرفيق وكيف أصبح؟

دأب الأخ عبد الإله بنكيران على تحدي الرفاق المغاربة بالقول إن "من كانوا يحلمون بالثورة والجمهورية في المغرب انتهوا"، وذلك بفضل حزب العدالة والتنمية الذي فاز بالانتخابات في عز الربيع العربي ـ الأمازيغي. والدليل لدى بنكيران هو أن الشباب المحتج غادر الشارع. ومن علامات نهاية الاتجاه الثوري قول الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد "الديموقراطية ممكنة في المغرب ما لم يتآمر
2015-06-25

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
هاني علقم-الأردن

دأب الأخ عبد الإله بنكيران على تحدي الرفاق المغاربة بالقول إن "من كانوا يحلمون بالثورة والجمهورية في المغرب انتهوا"، وذلك بفضل حزب العدالة والتنمية الذي فاز بالانتخابات في عز الربيع العربي ـ الأمازيغي. والدليل لدى بنكيران هو أن الشباب المحتج غادر الشارع.
ومن علامات نهاية الاتجاه الثوري قول الأمينة العامة للحزب الاشتراكي الموحد "الديموقراطية ممكنة في المغرب ما لم يتآمر الديموقراطيون على الشعب". ما هو الحل؟ أجابت زعيمة اليسار الجذري: المشاركة في الانتخابات. وهذا بعد عشرات السنين من المقاطعة العنيدة واتهام السلطة وحدها بالتآمر.
نقلتُ هذا التحدي لرفيق من اليسار الجذري لأرى أي مكان وصلت الثورة التي يظن منذ سنوات أنها على وشك الوقوع في المغرب ولم تقع بعد. هو رفيق تروتسكي بلغ الخمسين من العمر، عملنا معا في الجنوب المغربي وألجأ إليه بأسئلة محددة لتوضيح المشهد. يطالع بكثافة ويتحدث بعمق نادر، لكن خطابه لا يصل للعموم.
قال: انتهت الثورة. سألته: كيف عرفت؟
الرئيس المصري الجديد يقبل رأس ملك السعودية. الرئيس المصري الأسبق بريء من الفساد ومن دم الشهداء. تونس تختار رئيسا ولد سنة 1926. بشار الأسد صار في مقدمة محاربي الإرهاب. الثوار في اليمن دينيون. الذين قتلوا في ليبيا بعد القذافي أضعاف من قتلوا في عهده. والأهم أن البغدادي قد حقق ما لم يصل إليه بن لادن، أي الخلافة في أرض الخلافة، وهذا ما فتح الباب للتيارات الدينية لتحقق ذاتها لأقصى حد، وهذا ما سيقودها لحتفها. كيف؟ كان الإسلاميون يطالبون من وضع مريح، الآن تحقق مطلبهم وسيخضع الدين لاختبار التطبيق الذي فشلت فيه الاشتراكية.
ينعشني صوت الرفيق في توصيف المرحلة. طلبت منه أن يركز على المغرب، قال:
حين وصل محمد السادس للحكم وجد نخبة من رجالها، عبد الرحمن اليوسفي وأحمد الحليمي ومزيان بلفقيه.. جلهم كانوا يمينيين لكن كانوا مثقفين و"تكنوقراط" مؤهلين وحاملي مشروع.. والآن لدى الملك نخبة يقودها إدريس لشكر وحميد شباط في حزب الاستقلال. كان علال الفاسي مؤسس الحزب رغم رجعيته بالنسبة لي كيساري، حاملا لمشروع.
هذه مشكلة سياسية، وهناك مشكلة اقتصادية واجتماعية: لقد كرست وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين أزمة مزدوجة، فمن جهة أغرقت البلاد في الديون ورهنت مستقبلها، من جهة ثانية أغنت فئة قليلة من لصوص المال العام الذين جمعوا ثروات هائلة بفضل الخصخصة على حساب الشعب. هكذا ابتلينا بأغلبية فقيرة مدجنة وببورجوازية طفيلية تخاف الإبداع وتستهلك السلع لا المعرفة.
واضح ان لدى الملك مشكلة. والغريب أن الملك هو الذي يشخص أعتاب نظامه أكثر من غيره.
هنا اندهشت.
اندهشت لأن الرفيق يفكر للملك بدل أن يفكر ضده. ولهذا سوابق، ففي تشرين الاول/أكتوبر 1999، صرح أبراهام السرفاتي لإذاعة فرنسا الدولية: "عدت من المنفى دون شروط.. ولا يجب أن ندع جلالة الملك وحده". كان ذلك ترخيصا لليساريين بالاقتراب من السلطة. والحجة هي أن اليسار لا يريد أن يترك الملك وحده بمواجهة المحافظين. وقد أثمر ذلك تسوية سياسية وعدالة انتقالية باسم "الإنصاف والمصالحة" جبرت ضرر ضحايا سنوات الرصاص.
اعتبر الرفيق ما حصل تسوية سيئة. فبالنسبة للثوريين التسوية السياسية خيانة. لذا حصل انشقاق كبير بين الرفاق. منهم من صار سفيرا ومنهم من انعزل وصمت. لكن بعد خمس عشرة سنة يقوم الرفيق بنقد ذاتي:
طالب الرفاق بمؤسسات مستقلة. هذا طلب، لكن الوضع هو هذا: فحين تغيب المؤسسات المستقلة فإن الفراغ يملأه أصحاب النفوذ في المناطق. وقد اتُّهِم وزير بان حزبه مجرد تجمع للأعيان فوافق الوزير، فتوقف الرفاق عن نقد الأعيان. وحاليا فإن أصحاب النفوذ القبليين يملأون الفراغ المؤسساتي ويؤثرون في القرار السياسي والاقتصادي للدولة التي تسير في ركابهم.
وأين الرفيق؟
فاته القطار. حاليا يعيش في القبيلة ويتحدث عن أزمة الحداثة ويفسر ما بعد الحداثة.
يعترف الرفيق بشكل غير علني: انتصرت الرجعية ــ وأيديولوجيتها في هذه المرحلة قبيلة متأسلمة ــ وتولى رجالها مقدمة المشهد السياسي والاجتماعي. الخطير أن الرفيق يشعر أن في هذا خير غامض، فسابقا كان يعبِّر عن حنقه الشديد لأن الدولة تجعل من الدين أيديولوجيتها الرسمية، والدين أفيون الشعوب. والآن يندهش الرفيق من حزم الدولة الاستباقي ومن كونها تأخذ المسألة الدينية بجد لا نظير له لم يخطر قط بذهنه، رغم أنه قرأ قول جان جاك روسو: "ما من دولة قامت ولم يكن أساسها الدين".. أدرك الرفيق ضرورة الدين، وهو يتفق مع الأخ بنكيران في نقاط كثيرة، ولا يختلفان إلا في مسائل حقوقية صغيرة منها تجريم العلاقات الجنسية الرضائية ومعاقبة المفطرين في رمضان علنا. يرفع الإخوان شعار: "إذا ابتليتم فاستتروا"، كحل لمشكلة الحرية الشخصية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
يقول الكثير من الرفاق في مغرب اليوم: من حسن الحظ ان هناك أميرا للمؤمنين ليمسك بالشأن الديني. من يستطيع الإمساك بالشأن الديني اليوم؟
مع مثل هذه الاسئلة التي تحمل خوفا، يتضح ان الرفاق حائرون، يتساءلون أين مصلحتهم وأين مصلحة البلد؟ هل المصلحة هي الوفاء لقيم اليسار الجذري وخطاب الماركسية اللينينية لحين اجتثاث البورجوازية وإقامة نظام اشتراكي؟
لم تعد مشكلة اليسار مع البوليس بل مع التشدد. التيار المركزي في المجتمع يتبنى بشكل مبطن طروحات التيارات المتشددة. الشعوب يمينية مثل قادتها. والناس على دين ملوكهم. التيار اليساري هامشي عددا ومؤثر ثقافيا. تنبع قوة اليسار من امتلاكه وجهة نظر واضحة تهيمن على مناضليه، لكن تحولات كثيرة جعلت وجهة النظر هذه منفصلة عن الواقع. صارت عبئا.
يقول الرفيق: حين كنا شبابا، كنا واثقين من إنجاز التغيير الثوري. كانت السلطة تخافنا حتى ونحن تلاميذ. وإلا ما معنى أن يحكم القاضي المغربي خلال السبعينيات من القرن الماضي على تلميذ بالإعدام وعلى باقي المجموعة معه بخمسمئة عام سجنا؟ كنا تلاميذ بالكاد نعي ذواتنا، لكن القاضي يخافنا ويظن أن كل تلميذ هو غيفارا صغير يجب قصه قبل أن يستفحل.
يبدو ان الرفيق قد شفي من اشتراكية الحمقى ولم يعد يعتقد بأنه سيناضل بالوكالة عن الشعب، والجديد أنه اكتشف أهمية النقود. يقوم بنقد ذاتي:
تلقينا تربية مضللة بصدد النقود. سمعنا في شبابنا أن النقود غير مهمة. العكس هو الصحيح. في تبريره للتحول، تذكر الرفيق بأن ماركس قد نجا من البؤس بصداقته مع بورجوازي كبير هو فريدريك إنجلز.
يتعافى الرفيق من مرض إنكار الإخفاق التاريخي، وهو يعيش مرحلة نزول مؤلمة من الحلم إلى الواقع. ومع كل درجة نزول يتبدد الديالكتيك بالاقتراب من الحياة اليومية. من طريقته في الكلام، لم تعد لدى الرفيق طاقة نضالية كامنة وصار يلبس الجلباب الأبيض يوم الجمعة، وفي رمضان يتزايد منسوب النقد الذاتي لديه وقد يواظب على صلاة التراويح في العام القادم. 

للكاتب نفسه