قلت تنورة؟ هيــــــــــــــــه!

اعتقل البوليس شابتَين في العشرين من العمر في سوق إنزكان INZGANE الشعبي منتصف حزيران/ يونيو 2015. وروى موقع إلكتروني نقلا عن شاهد عيان أن الشابتين كانتا تتسوقان فتجمهر حولهما سلفيون للتنديد بتنورتَي الفتاتَين المخلتين بالحياء رافعين شعارا ضد المنكر. فظهور سيقان الشابات مزعج، والغيرة على الدين واجبة، والتنورة حرام شرعا، والدليل هو أغنية فارس كرم الذي يؤكد أن عيون الشباب تطارد التنانير.<br
2015-07-02

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
غادة الكندري-الكويت

اعتقل البوليس شابتَين في العشرين من العمر في سوق إنزكان INZGANE الشعبي منتصف حزيران/ يونيو 2015. وروى موقع إلكتروني نقلا عن شاهد عيان أن الشابتين كانتا تتسوقان فتجمهر حولهما سلفيون للتنديد بتنورتَي الفتاتَين المخلتين بالحياء رافعين شعارا ضد المنكر. فظهور سيقان الشابات مزعج، والغيرة على الدين واجبة، والتنورة حرام شرعا، والدليل هو أغنية فارس كرم الذي يؤكد أن عيون الشباب تطارد التنانير.
بعد المحاكمة الشعبية للباس استنجدت الشابتين بالشرطة فاعتقلتهما بتهمة الإخلال بالحياء العام، فتفرق الناس بعد تحقق العدل، وصار السوق نظيفا وسرى قانون الذكور في الشارع. ولكن الامر لم ينته عند هذا الحد، إذ التحق المحتجون بباب مركز الشرطة مطالبين بمتابعة الفتاتين، فاحتفظت بهما الشرطة لمدة أربع وعشرين ساعة ثم أطلقت سراحهما على أن تخضعا للمحاكمة في السادس من تموز/ يوليو. وذهب السلفيون سعداء طلقاء.
هكذا فإن لباس المرأة يفرض نفسه في النقاش العمومي المغربي. يجري ذلك بينما حصلت التلميذات على أعلى النقاط في امتحانات البكالوريا، وكانت نسبة الناجحات أكثر من الناجحين. هكذا يواجه ذكور المغرب مشاكل في الأرقام فيعوضون نقصهن بالتركيز على التنانير. التنورة القصيرة تَعرٍّ، والتعري إخلال بالحياء العام، وهذا ما يعاقب عليه الفصل 483 من القانون الجنائي. في تعليق على الاعتقال، أكد السوسيولوجي محمد الناجي الذي يسكن حي الرياض، وهو أفخم حي بالعاصمة الرباط، أنه توجد بين بنات الأغنياء لابسات تنانير، لكن الاعتقالات تمس أبناء الفقراء فقط.
ما هي مشكلة المغرب اليوم؟
اللاعدالة. لكن التركيز يجري على الإخلال بالحياء العام.
أكتب هذا النص بينما أتابع شلال الدم على الشاشة في مسجد بالكويت وفندق في تونس وشوارع عين العرب ومصنع في فرنسا. في المغرب، جرى الاعتقال بسبب التنورة في سوق، بينما في الجزائر منعت طالبة من دخول قاعة الامتحان لأن تنورتها كانت فوق الركبتين.
كيف تصير التنورة قضية رأي عام؟
نحن في ورطة كبيرة جدا. ما يبدو أنه أشباه قضايا يخفي مزاجا معبرا عن موقف من حركة المرأة في الفضاء العام. وقد انتشرت الدعوة لتنظيم وقفات في مختلف مدن المغرب ضد ما جرى، تحت شعار "ارتداء تنورة ليس جريمة".
المشكل أن التنانير تباع في السوق نفسه، وفيه نساء بلاستيكيات بسراويل الجينز، لكن البنات في بعض الأحياء الشعبية، حين يلبسن السروال الضيق، يُضربن بالطماطم، خاصة في رمضان الذي يتناول فيه المغاربة الكثير من الأغذية المنشطة جنسيا. ومن تجار ذلك السوق من يبيع سراويل جينز، لكن ما أن تشتري منه شابة السروال وتمر أمامه حتى يشعر بأن هذا منكر فيصير ضد السروال الذي باعه. السروال حرام وفلوسه حلال.
جاءت الشابتان إلى سوق إنزكان من حي فخم في آغادير. وإنزكان بمثابة محطة طرقية مزدحمة وحي خلفي ضخم في المدينة، وهنا نجد وجهاً وَقَفَا تفصلهما عشر كيلومترات. الوجه منفتح والقفا محافظ. في آغادير أحياء للاغنياء وشواطئ رملية تمتد على مسافات طويلة، ويزيد عرضها عن خمسمئة متر.. هنا تلبس النساء ما يردن، ويحصل أن تجلس المصطافات بالمايوه في مقهى لتناول الغذاء. ويخدمهن نادل يقيم في إنزكان.
يأتي الرزق من الوجه حيث مطاعم وفنادق فيها زبائن بالتنانير وبدونها، والمفروض على الأجير خدمتهن.
السياحة ضرورة اقتصادية مهما كان الموقف منها. وقد اعتبر وزير تونسي "السياحة دعارة" في عهد الرئيس منصف المرزوقي. يخدم النادل السائحات بالمنظور نفسه تقريبا. يفتح قناني الجعة وهو غاضب، لكن حين يرجع لحيه يستعيد سلطته. وسوق إنزكان يعكس هذا المزاج المناهض لحياة الشاطئ المتحررة. في السوق ينتشر التشدد بين التجار والكثير من السلع كتب عليها بالأخضر "حلال".
انتقلت الشابتان بين مكانين متناقضين ولم تنتبها إلى أن لكل مكان قانونه. وقانون المكان أشد صلابة من الصخر. نزلتا من سيارتهما في مكان مختلف، ينظر لحرية اللباس كرديف للتعري يستوجب الاعتقال، والمصيبة أنه لو لم يتم الاعتقال لتعرضت الشابتان للعنف. من الوجهة الحقوقية هذا انتهاك للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
تقول حنة أرندت: "كان الشعب قبل القرن العشرين مكشوفا بشكل مباشر ومن دون أية حماية شخصية من ضغوط الدولة والمجتمع"، لكن الآن صارت حقوق الإنسان تحمي الفرد من العنف البدني والنفسي.. وإن كان بشكل نظري فحسب، فما زال الفرد تحت رحمة الدين والقبيلة والطائفة والبوليس، لذلك صارت الجرأة في التفكير والكتابة والسينما واللباس لعنة.
هكذا يتعمم الخوف، وقد عبرت الكاتبة المغربية لطيفة باقا المقيمة في أغادير عن خوفها من ان يتحول هذا التدخل الذي قام به المارة (والتجار) واستجابت له السلطات عبر اعتقال الفتاتين إلى مكتسب للأصولية ويتم بعد ذلك تعميمه على باقي المدن المغربية.
بالنظر للمغرب من خلال التنورة، تظهر حوادث متباعدة لكنها في سياق واحد، من ذلك إدانة زعيم حزب بمثل جاهلي ورد في حديث نبوي، وأيضا التنديد بسلسلة كوميدية تقدم محاكاة ساخرة للفصحى. في الصحف يعتبر ذكر المؤخرة خدشا للحياء بينما ضبطت الشرطة جنديا يصور مؤخرات النساء في الشارع. مؤخرا توقفت أسواق تجارية كبرى عن بيع الخمور وانتشرت أسواق تركية لا تبيع الخمر وتغلق أبوابها في وقت الصلاة. وقد كثر الفنانون التائبون والمتحولون للأغاني الدينية...
في هذه الأجواء ستفكر الشابات كثيرا قبل ارتداء تنورة، وهكذا تتسبب هذه الحوادث المتواترة في قضمات صغيرة للحرية الفردية، ويطغى الخوف من مخالفة الاتجاه العام، ويصير على الأقلية أن تخضع لذوق الأغلبية أو أنها سترغم على ذلك بالحملات أو بالحصار في الشارع.. هكذا ستتزايد الرقابة الذاتية ولن يخالف أحد التيار، مع أن الذين يمشون مع التيار يصلون سريعا إلى الحفرة.. وستتسبب "الدعشنة" الذاتية في صناعة الإنسان ذي البعد الواحد.
بعد خمسة عشر يوما من صدمة الاعتقال وليلة في السجن، وبفضل حملة التضامن، تحسنت معنويات الشابتين، ويبدو أنهما لن تخضعا لأية محاكمة، وقد روت إحداهما ما جرى: "دخلنا السوق، جاء شخص طلب منا رقم الهاتف، رفضنا، فبدأ يصرخ بسبب المنكر واجتمع الناس.. نحن طلبنا البوليس فاعتقلونا".
يبدو أن قضية التنورة سببها ذئب منفرد كان يريد ما تحت التنورة، وأن شعار "هذا منكر" و "إخلال بالحياء العام" ليس سوى وسيلة لابتزاز المرأة.

للكاتب نفسه