بؤس مقصورة الشعب في الصيف

سيداتي وسادتي، القطار القادم من فاس والمتجه إلى مراكش سيتأخر عن موعده خمس عشرة دقيقة، نشكركم على تفهمكم. نزل صمت رهيب على المسافرين المنتظرين في محطة القطار بالدار البيضاء. الحرارة مرتفعة بشكل مهول. بعد دقائق، عاد الصوت النسوي ليكرر "القطار سيتأخر عن موعده خمسا وعشرين دقيقة". الانتظار يفسد المزاج. فكرت في العودة للبيت لأن ما يبدأ سيئا ينتهي سيئا. بعد عشرين دقيقة جاء القطار،
2015-07-29

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

سيداتي وسادتي، القطار القادم من فاس والمتجه إلى مراكش سيتأخر عن موعده خمس عشرة دقيقة، نشكركم على تفهمكم. نزل صمت رهيب على المسافرين المنتظرين في محطة القطار بالدار البيضاء. الحرارة مرتفعة بشكل مهول. بعد دقائق، عاد الصوت النسوي ليكرر "القطار سيتأخر عن موعده خمسا وعشرين دقيقة". الانتظار يفسد المزاج. فكرت في العودة للبيت لأن ما يبدأ سيئا ينتهي سيئا.
بعد عشرين دقيقة جاء القطار، فركبت في الدرجة الثانية لأني لم أجد مقعدا مع "نساء الدرجة الأولى". الحرارة في القطار اشد من الحرارة في المحطة. جلست في مقصورة فيها الكثير من الأطفال. واضح أن بعضهم ركبوا من فاس وهم يتحملون الجحيم منذ أربع ساعات، وسيقضون أربع ساعات أخرى قبل الوصول لمراكش.
كنت غاضبا، وقد تزامن ذلك مع نهاية رمضان وتحرير الشياطين. عرقت في الخمس دقائق الأولى. كان صوت المكيف أعلى من مفعوله. واقع المقصورة معطوب تماما. سيفكر مواطن متبرجز في رفع دعوى ضد مدير القطار بسبب الظروف المذلة التي تجري فيها الرحلة. لكن اغلب النساء سيدعين على المدير "الله يعطيه العذاب". الدعاء يخفف على البؤساء الذين يتجاهلون أن من يدفع قليلا هو من يحصل على العذاب.
الدعاء لا يفيد السوسيولوجي البصاص الذي أخرج حاسوبه لتبريد غضبه بالكتابة، وليشرككم في عذابه. وقد قرر ركوب شيطان النميمة لوصف رحلة الجحيم. ستجدون لزوجة العدوانية في كلماته.
في المقصورة القصديرية الكبيرة، نساء وأطفال يسافرون بعد عيد الفطر. أطفال على أيديهم نقش حناء فرحة العيد. نساء لديهن حقائب يدوية وأكياس بلاستيكية فيها أكل الأطفال. من النافذة التي تشبه شاشة مستطيلة تظهر فيلات ثم مصانع ثم حقول مبهجة يعبرها بقر من الوزن الثقيل..
كلما أوغل القطار نحو الجنوب، زادت الحرارة وزادت إفرازات الأجساد. تُنقِص الأمهات ملابس أولادهن الذين يوشكون على النوم في أحضانهن. بعض النساء يلوحن بقطع ثوب كمروحة.. نفد الأكل وسخن الماء. تمر عربة بيع مأكولات ومشروبات بسعر مضاعف، لكن ركاب الدرجة الثانية لا يملكون الكثير من النقود. لدى أم هاتف واحد تعطيه لطفليها بالتناوب ليلعبا ويتركاها بسلام. لكنهما يتصارعان على الشاشة، والمُحزن أن تكتيكات الإسْكات وفض النزاع لدى الأم فاشلة. في رحلة الجحيم هذه قل فخري بقطارات بلادي، لكن فخري بالبشر يزداد: للنساء صبر عجيب مع أولادهن. لو تُرك الأمر للأب لرفع طفله وضرب به السقف والسلام.
في القطار الكثير من العائلات المهاجرة، زواج مختلط، مغربي ملتحٍ وفرنسية بالحجاب. مراكش أفضل لهما من سوريا. أفكر في حال ملايين اللاجئين الذين يتحملون الحر في أماكن يبدو القطار أمامها جنة. يهتم المغربي العائد من الغرب بطفله ويطالع جريدة تعلن على صفحتها الأولى بالبنط العريض أن الملك محمد السادس سيقضي عطلته الصيفية في جزيرة يونانية.
في المقصورة شابات بتنانير قصيرة جدا. لكن العرق يمنع الخيال من الاشتهاء. في الأريكة المقابلة شابات يرتدين سبعة أمتار ثوب. يبدو أن صاحبات التنانير مغربيات تعشن في أوروبا وتتصرّفن بطلاقة وتضحكن برهافة تفتح القلب. رغم الحرارة فهن سعيدات، يبدو أن محْرارهن معطل. قطارات الغربة مكيفة بطريقة أفضل. قطارات المغرب غير مكيفة جيدا، وخاصة في مقصورة الشعب. يعتقد المهاجرون أن الحياة في المغرب فيها حميمية لا توجد في بلاد الغربة.
لدى الركاب الآن عيون حمراء وملامح مشدودة. كلما مر وقت زاد غضب الرجال خاصة.. يجلسون واضعين ساقا على ساق بينما تدبّر الأمهات ضغط أطفالهن. أيدي الرجال فارغة إلا من هواتفهم.. نزع رجل حذاءه واستلقى على الكرسي وشخر وفمه مفتوح نحو السماء. يصعب إغلاق الفم في ظل حرارة مرتفعة. شاب يتسلى بالحديث في الهاتف. في كل مرة يتصل يردد الجملة "إذا لم أتصل بك فلن تتصل بي؟". يضيف "اتصل بك لأبارك العيد وأصل الرحم". يبدو أن تحصيل المجاملات هو هدفه الوحيد. يستخدم ما يسميه اندري مالرو حوارا استعراضيا، فما يقوله موجه لركاب المقصورة أكثر مما هو موجه لمن يتم الاتصال به. يتكلم ليتفاخر لا ليصل الرحم.
تتحدث النساء في الهاتف همسا بينما يصرخ الرجال. ملابس النساء أكثر تناسقا وبهجة، ألوان وتصاميم مختلفة، بينما يرتدي الرجال سراويل بألوان داكنة يصعب تحديد آخر مرة غسلت فيها..
بعد ساعتين وصل القطار منطقة الرحامنة وسط المغرب. تغير المشهد على الشاشة ــ النافذة. صارت الأرض قاحلة والأشجار قليلة والمساكن صغيرة والبشر نادرين، وبين حين وآخر تظهر نعاج من وزن الريشة..
تبلغ الحرارة هنا ستا وأربعين درجة، في الظل، حسب مصلحة أحوال الطقس الحكومية. المقصورة سجن حديدي ساخن. يقاوم المسافر الحرارة بالجسد الأعزل. خطر ببالي نزع حذائي وضرب سقف العربة كما كان يفعل البدو الذين صاروا عمالا في حقول النفط في رواية "مدن الملح"، خاصة في الأخدود. جاء مراقب التذاكر وسألته لماذا لا يستخدمون مكيفات حقيقية، فقال إن هذه المقصورة وحدها ساخنة، أما المقصورات الأخرى فهي باردة. حملت حاسوبي وحقيبتي الصغيرة بحثا عن المقصورة المحظوظة. مررت بعدة مقصورات أبحث عن إيفرست..
قطع القطار 220 كيلومتراً في أربع ساعات، مع الحرارة والتأخر. شر الشمس وشر الزمن. لكن الكتابة تحميني من الشرّين. في إعلانات شركة القطارات يُتباهى بتحقيق 75 في المئة من رضا الزبائن. يبدو أن استطلاع الرأي هذا تم في شهر آذار/مارس. لو جاء مدير القطار وسأل الآن لحصل على صفر في المئة. هو لن يأتي. وحتى لو أتى قد يقول للركاب "من وجد أفضل من هذا يأتيني به".
بما أن مقالتي تتقدم، سأصوت برضا على عذاب القطار. فبهجة الكتابة تجعل العالم والقطار أكثر قابلية للتحمل. وركوب درجة الشعب أكثر إفادة للسوسيولوجي البصاص من ركوب الدرجة الأولى.

 


وسوم: العدد 154

للكاتب نفسه