طقوس مواسم الفروسية في المغرب

الفروسية ظاهرة صيفية في البوادي المغربية، تجري أطوارها بعد الحصاد في مواسم مخصوصة، وهي حلبة للتنافس على أصعدة عدة. يحرص محافظ كل إقليم على تحديد توقيت موسم كل ولي وكل قبيلة بشكل دقيق تلافياً لتزامنها. فإن حدث أن تصادَف وقوعها في وقت واحد، فيجب أن يتباعد مكانياً الموسمان المتزامنان. كما تُقدِّم المحافظة دعماً يتمثل بثمن البارود في الاحتفال. ومن البارود اشتق الاسم المغربي للفروسية وهو
2015-08-13

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

الفروسية ظاهرة صيفية في البوادي المغربية، تجري أطوارها بعد الحصاد في مواسم مخصوصة، وهي حلبة للتنافس على أصعدة عدة. يحرص محافظ كل إقليم على تحديد توقيت موسم كل ولي وكل قبيلة بشكل دقيق تلافياً لتزامنها. فإن حدث أن تصادَف وقوعها في وقت واحد، فيجب أن يتباعد مكانياً الموسمان المتزامنان. كما تُقدِّم المحافظة دعماً يتمثل بثمن البارود في الاحتفال. ومن البارود اشتق الاسم المغربي للفروسية وهو التبوريدة.
قبل أسبوعين من الموعد، يعلن البراح المنادي ــ في سوق القبيلة وأسواق القبائل المجاورة ــ عن وقت وإسم الموسم، وهو اسم ولي صالح. حينها تبدأ الاستعدادات "للرحيل"، أي بناء خيمة ليومين غالبا ما يكونان السبت والأحد. الموسم عيد ديني وسوق تجاري. في الجنوب يسمى الموسم "الموغار" ALMOGAR أي تجمع بشري وسوق.
هذا وصف لما يجري في إقليم الخميسات شرق الرباط، كنموذج. يبدأ عادة الرحيل صباح الجمعة، وتقيم القبائل خيامها متجاورة في شكل دائرة حول الضريح وساحة الفروسية. يجري هذا الرحيل المرهق بحماس لدى كبار السن الذين يعرفون الربح والخسارة. الموسم ضروري من وجهة نظر مقيميه من كبار السن خاصة. فهو بركة وعز، وهو مفيد نفسيا لمن يشمون رائحة بارود الفروسية فتتحسن معنوياتهم.
والخسارة مزدوجة، إذ يفسَّر التخلف عن الرحيل بأنّ الغائب ليس لديه ما ينفقه وهنا يخسر سمعته. وهناك لعنة الولي، فمن لم يحضر قد يصيبه شر. يحكى أنّ امرأة منعت ماء بئرها عن زوار الضريح فجن ابنها. وقد يكون العقاب جماعيا للقبيلة التي تهمل موسمها ويحل بها الذل أمام القبائل الأخرى. لذلك يرافق بعض رجال القبيلة أحفاد الولي إلى مقر المحافظة لتأكيد حاجتهم لانعقاد الموسم.
الولي يضر ويفيد القبيلة. وكراماته تثري سمعتها. وقد يكون رزقها الوفير بفضل دعواته التي لا تُرد. وهو دفين أرض القبيلة ويمكّنها من التموقع على الخريطة، مثل "جماعة خميس سيدي يحيى" في إقليم الخميسات.
ظهر الجمعة تكون الخيام قد بنيت، ويكون هناك سوق قرب الضريح يباع فيه اللحم والشمع والحلويات التي سيشتريها الزوار. فالحلوى تصير مباركة لمجرد أنها بيعت قرب الضريح. صباح السبت تنطلق ألعاب الفروسية ويصل أبناء القبيلة من المدن للمساهمة اقتصاديا في الموسم. تقف سيارات رباعية الدفع يقودها مهندسون وأطباء ويدخلون خيام أهلهم محمّلين بما لذ وطاب. ويقدمون الهدايا للحصول على البركة من حفدة الولي دفين الضريح. وبعد البركة يجري الاستمتاع بـ "الفنطازية". وكلما فخمت التاء طاءً، دل ذلك على الفخر بالحدث.
يقدم الفرسان هدية نقدية لأحفاد الولي ويحصلون منهم على البركة، وهي شفوية. تقدم البركة في الضريح أو في خيمة أمامه. وتقع الخيمة في نهاية ساحة الفروسية، وهي أرض محروثة تم رشها بالماء تقف في مبتدئها فرق الفرسان، كل فرقة تمثل قبيلة. ويقف حول الساحة آلاف المتفرجين ينتظرون انطلاق الرفقة، وتسمى أيضا "الصربة"، وهي تحويل وتفخيم للسين في كلمة "السرب". تنطلق "الصربة" المؤلفة من حوالي عشرة فرسان يتقدمون بالتساوي. تمسك يد الفارس بالعنان وتمسك يده الأخرى "بالمدفع" وهو بندقية تقليدية محشوة بالبارود.. يحظى الفرسان الذين يقفون على الرِّكاب بينما الخيل تجري بالإعجاب الأكبر. تدوي الزغاريد. الفروسية لحظة حاسمة في العام بالنسبة للفلاح. إنها الانسلاخ من ذهنية الفلاح حصّاد الشعير وراعي البقر للانتقال إلى ذهنية الفارس.
يتم الاستعداد لهذه اللحظة البطولية طويلا، فحين يقترب موعد الموسم يشتد اهتمام الفلاح بحصانه. يحتفظ الأغنياء بالحصان سنوات عدة، بينما يشتري الفقراء حصانا في الصيف ويبيعونه بعد الموسم. توضع نقطة حناء على ناصية الحصان ويقص شعره، توجد أحصنة يزيد ثمنها عن عشرة آلاف دولار، ويتم شراء سرج مزين بالدمقس والنواقيس النحاسية لتنغم لحظات العدْو..
يتغنى التراث الشعبي المغربي بالفروسية. فهي تجلب الشرف والمجد والشجاعة والكبرياء والكرم.. وقد صارت بعض قبائل المغرب مشهورة بإتقانها الفروسية. والحقيقة أن الفروسية شكل سلمي للصراع القبلي. وقد انتقلت للفضاءات العصرية مثل الأعياد الوطنية وحفلات ختان أولاد الأغنياء ومهرجانات المدن. وجرى مرة تنظيم مسابقات فروسية في مدينة الصويرة في شاطئ مضاء بفضل القمر المكتمل وكان ذلك ساحرا. وفي الكثير من الأحيان توزع جوائز لأحسن فارس وأحسن فرقة فرسان وهي التي تتقدم وتطلق البارود دفعة واحدة.
تغذي حكايات الثقافة الشعبية السلوكيات الحالية، تثمنها وتحث عليها. الدليل أنه حين يترشح بعض الفرسان في الانتخابات ينجحون بسهولة. والفروسية تذكر المسنين "بالزمان الكبير" بحنين جارف. أيام خلط السمن والعسل الحر. في ذلك الزمان، كان الشبان يحبون الفروسية أكثر من حبهم لهواتفهم الذكية. يردد المسنون أن مئة فارس أفضل من ألف راجل.
ولهذا القول بعد تاريخي، لأن استخدام الرِّكاب قد سمح للفرسان بالبقاء مستوين فوق سروجهم، فصار الخيالة أخطر من المشاة في الحروب. وتحكي الأغنية الشعبية عن موسم صار "حرْكة" أي غارة. وقد استخدم الموسم كخدعة لجمع الفرسان دون أن ينتبه الأعداء. وقد كانت "الحَرْكة" وسيلة لحكم المغرب. وجعل السلطان مولاي إسماعيل (1672 - 1727) عرشه على حصانه ليسهل عليه تأديب القبائل المتمردة، فغلبها. وهذا العمق التاريخي هو الذي يفسر القيمة الكبيرة التي تعطى للفروسية ويجعلها تتخذ أبعادا اجتماعية وسياسية رغم كلفتها.
بعد أن تنتهي فرجة صباح السبت والأحد، وقبيل الظهر، يتقاسم رجال القبيلة التي تحتضن الموسم فرسان القبائل الأخرى ويستضيفونهم للغذاء. ويحرص كل فارس محلي بأن يستضيف أكبر عدد من الفرسان ليتبعوه إلى خيمته وتربط خيلهم أمامها. ويستحسن ألا تكون الخيمة من شعر المعز كما في الماضي، بل خيمة عصرية واسعة عالية من الثوب السميك. وهنا يبدأ استعراض الكرم. فبعد الشاي والحلوى والعسل يظهر الشكل الأعلى للكرم وهو الذبيحة المشوية. للإشارة، حين تتزامن مواسم الفروسية مع الحملة الانتخابية، كما في صيف 2015، يتضاعف الكرم.
الدليل على الكرم هو أن يتذكر الفرسان من تغذوا عنده. الاستضافة اختبار لنساء البيت لإظهار مهارتهن في الطبخ. في القبيلة يوصف الرجل الذي لم يتزوج امرأة حاذقة بأنه "جيفة".

الفروسية مناسبة اجتماعية وفرصة للتنافس. ومستويات التنافس هي الحصان والخيمة والدمقس والطبخ الدسم. ولهذا التنافس بعد اقتصادي، فمن ينفق أكثر من غيره يتفوق. ولكي ينفق عليه أن يطور وسائل إنتاجه باستمرار، وخاصة بتكثير البقر لإنتاج الحليب وزراعة الخضر المسقية. وحين يشتعل هذا التنافس يستحسن أن يتراجع الذين لا يملكون وأن يخفضوا صوتهم..

 

ولكن هذه الكلفة تعيق استمرار الفروسية وتقلص عدد ممارسيها. العائق الثاني مُركّب ناتج عن تحولٍ مجاليٍّ واقتصاديٍّ وقيميٍّ. مجالياً، هناك كثرة المباني قرب الأضرحة. كما يتسبب تسييج الأراضي في البوادي بتقليص الفضاءات الحرة حتى أنه صار على التجار استئجار مكان وضع خيامهم في المواسم. ومن أشهر المواسم المغربية التي صارت مدينية، موسم مولاي عبد الله أمغار جنوب الدار البيضاء (وقد جاءت رشيدة داتي مساعدة نيكولا ساركوزي ووزيرته ــ وهي من أصل مغربي ــ للتبرك بالموسم الذي انطلق منذ أسبوع). اقتصاديا لا يشتري العقلاء، أي المحاسبون، خيلا ودمقسا، يشترون بقرات تقدم حليبا وعجولا. تتعارض قيم الفروسية مع قيم اختراق الرأسمالية لنمط الإنتاج الفلاحي التقليدي. ومع الزمن سيُضعِف حب البقر الحلوب الفروسية كما أضعفها سيرفانتيس عندما جعل من عجز الدون كيشوت دي لامانشا أضحوكة... وكلما تراجعت قيم الفروسية زاد الحنين إليها.

 

 

للكاتب نفسه