انتخابات المغرب: الأرقام تتكلّم في السياسة

في اللحظات الأخيرة من التصويت في الانتخابات البلدية مساء الرابع من أيلول/سبتمبر الجاري، قال زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي إن "أعطاباً كثيرة تشوب عملية التصويت، وحكمنا سيصدر مع إغلاق المكاتب". ومن جهته حمّل زعيم حزب الاستقلال الحكومة تبعات "الانفلاتات الخطيرة" في الانتخابات، ومنها عدم حياد السلطة والتشكيك في إرادة التغيير في المغرب والتشكيك في نضج المواطن والتشكيك في آفاق
2015-09-10

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

في اللحظات الأخيرة من التصويت في الانتخابات البلدية مساء الرابع من أيلول/سبتمبر الجاري، قال زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي إن "أعطاباً كثيرة تشوب عملية التصويت، وحكمنا سيصدر مع إغلاق المكاتب". ومن جهته حمّل زعيم حزب الاستقلال الحكومة تبعات "الانفلاتات الخطيرة" في الانتخابات، ومنها عدم حياد السلطة والتشكيك في إرادة التغيير في المغرب والتشكيك في نضج المواطن والتشكيك في آفاق الديموقراطية بسبب كثرة الخروقات. شاعت كلمة "الخروقات" بشكل خارق. وبعد العزف الفردي تم الانتقال للعزف الجماعي. اجتمعت أحزاب المعارضة وقالت: "قادة المعارضة يتهمون الحكومة بإفشال الانتخابات".
تعوّد الخاسرون مهاجمة وزير الداخلية، لكنهم هذه المرة يهاجمون الحكومة، وخاصة رئيسها الإسلامي عبد الإله بنكيران. وللإشارة فزعيما حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي وصلا للقيادة بعد الربيع العربي /الأمازيغي. وقد بُرّر تصعيدهما للقيادة بسلاطة لسانهما وتمكنهما من الخطاب الشعبوي الذي يُتوقع منه مجاراة نهج بنكيران.
كانت التصريحات قوية، وسبّبت ضباباً حجب الرؤية. ومع تقدّم الزمن، قال المعلقون إنها من أثر الصدمة وعلامة على "سكرات الموت الموجعة". ذلك أن الأفواه الكبيرة خسرت الانتخابات فبدأت في التباكي على الديموقراطية التي وافقت على منطلقاتها وأنكرت نتائجها. وقد شاعت "الخروقات" وجعلت خطاب الخاسرين يطفو قبل أن تظهر الأرقام لتوضيح الخريطة السياسية المغربية الجديدة.
بدأت النتائج تظهر بالتقسيط: حزب العدالة والتنمية الاسلامي يحصل على الأغلبية في مدن آغادير والدار البيضاء وفاس ومراكش وطنجة. ومع توالي النتائج يتضح أن سكرات الموت الانتخابي أشد من الموت البيولوجي. وقد حظيت حالتان بالمتابعة: آغادير وفاس.
آغادير لأنها مدينة سياحية فيها كباريهات وحانات وتنانير قصيرة وسيسيّرها الإسلاميون. وفاس، لأن هزيمة زعيم حزب الاستقلال بفارق سبعين ألف صوت أمام حزب العدالة والتنمية، هي الأكثر قسوة وإثارة للشماتة. فالرجل فم كبير لم يترك اتهاماً إلا ووجهه لحزب العدالة والتنمية.. اتهامات لا يستطيع حتى اليساريون تصديقها، فكيف تصدقها قاعدة حزب الاستقلال، وهي محافظة اجتماعياً وأيديولوجياً؟ وهو غادر الائتلاف الحكومي في صيف 2013 على أمل أن تسقط الحكومة التي يقودها الإسلاميون، وكان ذلك قراراً كارثياً على حزبه.
كانت أرقام المدن صادمة. سقط وزراء سابقون وحاليون وأمناء عامون.. مثلاً في الدار البيضاء عرف المتتبعون مبكراً أن حزب العدالة والتنمية حصل على 74 مقعداً من أصل 147، وهي أغلبية تمكّنه من إدارة العاصمة الاقتصادية بشكل منفرد، وهذا غير مسبوق. وفي هذا التصويت عقاب لزعيم حزب الاتحاد الدستوري الذي سيّر المدينة اثنتي عشرة سنة، فصارت طرقاتها حفراً ودروبها مزابل وانقرض المُلْك العمومي فيها وصارت صلعاء بلا حدائق. والدار البيضاء هي معيار ومقياس نتائج المغرب. أعلن بنكيران: "الشعب ردّ لنا التحية بأحسن منها". وشبّه حزبه بالنملة وأحزاب المعارضة بالصرصار. النملة تعمل والصرصار يغني وقد جاءت الانتخابات لتفضح جوعه.
هنا صار تعبير "الإسلاميون يكتسحون" على كل لسان. لكن سرعان ما دخلت أرقام وزارة الداخلية على الخط: "حزب الأصالة والمعاصرة" تصدَّر نتائج الانتخابات الجماعية وحصل على 6655 مقعداً، يليه حزب الاستقلال وله 5106 مقاعد، وحزب العدالة والتنمية وله 5021 مقعداً، وبلغت نسبة المشاركة 53.67 بالمئة.
الأرقام تقدم نهاية منطقية لعقدة في سيناريو حدث في انتخابات 2011 حين فاز الإسلاميون بالانتخابات التشريعية ووصلوا للسلطة. حصلت مقدّمة هذا السيناريو في 2009، حينها اكتسح حزب الأصالة والمعاصرة الانتخابات البلدية في صيف 2009 – وكان يُعرّف بـ "حزب صديق الملك" - وحصل على 6015 مقعداً ومليون و155 ألف صوت، بينما حصل حزب العدالة والتنمية على 1513 مقعداً بفضل 460 ألف صوت. خاتمة السيناريو حصلت هذا الشهر. لم يفز الإسلاميون بالمرتبة الأولى، وهذا مهم.. ولكن لماذا هم إذاً مبتهجون؟ لأنهم ببساطة حصلوا على ثلاثة أضعاف الأصوات مقارنة بالسابق. خسروا مقاعد نعم، بسبب التقسيم المعتمَد للدوائر والمفصَّل حتى يخسروها، ولكن زادت أعداد المصوّتين لهم. هذه هي العقدة الخفية في السيناريو الجاري والممتد على أطوار ثلاثة طيلة ثماني سنوات، بين 2009 و2015. كان عنوان الفيلم هو منع الإسلاميين من تصدّر المشهد السياسي. لذلك تمّ تأجيل الخاتمة. لقد كان مفترضاً أن تجري هذه الانتخابات في 2012، وأجلت بافتعال خلافات على القانون الانتخابي الجديد وحجم الدوائر الانتخابية على أمل أن تتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية. ولكن التأجيل لم يحلّ المشكلة، على الأقل ليس تماماً.
.. اتضح إذاً أن الترتيب المعلَن خادع. وهنا سيُصدَم الاستئصاليون، ولهذا فإن الحزب الذي حصل على المرتبة الأولى ليس سعيداً. فقد حصل حزب العدالة والتنمية على مليون وخمسمئة ألف صوت، وحصل حزب الأصالة والمعاصرة على مليون وثلاثمئة ألف صوت. وعلى هذا فالثاني يفوق الأول بألف مقعد. وهذا هو الجانب الأول المتعلق بالأرقام. الجانب الثاني هو أن حزب الأصالة والمعاصرة فاز بالمرتبة الأولى في البوادي بينما فاز الإسلاميون في المدن الكبرى التي خصها التقطيع بمقاعد أقل. مثلاً: إقليم تارودانت فيه 400 ألف ناخب أفرز لها 1500 مقعد، والدار البيضاء التي يقطنها خمسة ملايين إنسان أفرز لها أقل من خمسمئة مقعد. في تارودانت 89 جماعة وفي الدار البيضاء سبع مقاطعات. النتيجة أن عدد ممثلي البوادي أكبر، حتى لو كان سكان المدن أكثر. فكيف يعقل أن يزيد عدد ممثلي إقليم قروي عن ممثلي مدينة فيها خُمْس سكان المغرب وجلّ اقتصاده؟
الجواب: هذا مقلب تشريعي بنيوي يضمن ترييف المشهد السياسي، وتبديد الطاقة المطلبية لسكان المدن لصالح الريف الظريف.
عملياً، ضاعف حزب العدالة والتنمية عدد الأصوات التي حصل عليها ثلاث مرات بين 2009 و2015. هذه الأرقام تكشف الحقيقة وتكبح الفرح بفوز حزب الأصالة والمعاصرة الذي يستفيد من تراجع الخطاب المعادي له. ومبرر التراجع أنه الحزب الوحيد القادر على وقف تمدد الإسلاميين. يمثل الحزب حلاً مغربياً للخوف من الإسلاميين. حتى الذين يقاطعون الانتخابات في الأحياء الراقية واثقون أن الحزب سيقوم بمهمة الصدّ نيابة عنهم. هذا هو الخطاب الضمني الساري والذي يخجل الكثيرون من إعلانه.
كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد استهانت الأحزاب التقليدية بالناس زمناً طويلاً. قدّم قيادي اتحادي حساباً بعد صدمة النتائج، قال: "على القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي أن تقدّم استقالتها وتعلن عن موعد مؤتمر استثنائي قبل الانتخابات المقبلة. غير ذلك سيكون هروباً إلى الأمام سيُنهي ما تبقى منا".
سألت رفيقاً أين نحن الآن؟ فأجاب بهلع "نحن في يد طالبان"، وتخيل نفسه يكتب رسالة شكر حارة لصديق الملك لبعد نظره حين أسس "حزب الأصالة والمعاصرة" والذي صدّ الإسلاميين ومنعهم من الفوز بكل المقاعد. سألت سلفياً مبتهجاً بفوز "العدالة والتنمية". قال بفخر إنه صوّت لهم، حين سألته عن السبب (والسلفيون يكرهون إسلاميي العدالة والتنمية) ذكّر بالقاعدة الفقهية التي تقول أنه حين تكثر المفاسد يؤخذ بأقل المفاسد. وقال مثقف قلق من مدينة آغادير: لا أعرف أين نحن.
وعلى الرغم من السياق المغاير، فثمة أوجه اختلاف واتفاق بين اكتساح "جبهة الإنقاذ" الجزائرية الانتخابات في 1991 واكتساح "العدالة والتنمية" (بحساب المصوِّتين لهم لا المقاعد المحصّلة) الآن..

 

للكاتب نفسه