في محراب الفن الحديث

أمام مُركّب سينمائي يعرض آخر إنتاجات هوليوود فور صدورها، يقف مئات الشبان الأنيقين يفحصون ملصقات عشرة أفلام جديدة، تعرض هنا قبل وصولها ليد القراصنة. وهذا يمنح الفرد إحساساً بالآنية وبأنه لم يفته شيء من الفن السابع وهو مصدر فخر. هذا مكان تجمّع جاذب للشبيبة بعدما انتهت الانتخابات وأغلقت الكثير من المقارّ الحزبية الموسمية. للإشارة، فعدد رواد السينما أكبر من الأصوات التي حصل عليها أكبر حزب
2015-09-17

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
سينما القصر في طنجة: على وشك الإندثار

أمام مُركّب سينمائي يعرض آخر إنتاجات هوليوود فور صدورها، يقف مئات الشبان الأنيقين يفحصون ملصقات عشرة أفلام جديدة، تعرض هنا قبل وصولها ليد القراصنة. وهذا يمنح الفرد إحساساً بالآنية وبأنه لم يفته شيء من الفن السابع وهو مصدر فخر.
هذا مكان تجمّع جاذب للشبيبة بعدما انتهت الانتخابات وأغلقت الكثير من المقارّ الحزبية الموسمية. للإشارة، فعدد رواد السينما أكبر من الأصوات التي حصل عليها أكبر حزب مغربي.
قبل دخول قاعات العرض يقدم البهو الكبير فرجة حقيقية. يمكن تحصيل الراحة البيولوجية في مراحيض فخمة واسعة مضاءة ونظيفة، وهذه نعمة نادرة في الدار البيضاء. بعد شراء التذاكر تنفتح للزبائن قاعات مفروشة ببساط سميك وكراسي بلون لسان الكلب الذي أعجب زوجة فرعون. هنا صمت لذيذ ومكيف يجعل السير على البساط أشبه بالتحليق في عشر قاعات لم تكن في قصور الملوك القدامى.
ثمن التذكرة سبعة دولارات، مع مشروب وذرة بثلاثة دولارات. عشرة دولارات، وهذا سعر يقوم بوظيفة اصطفاء داروينية للزبائن. هناك عشاق يبحثون عن خلوة، وتمكّنهم وحدة الذوق الفني من توثيق العلاقات العاطفية.. يأتي هؤلاء العشاق للسينما ظرفيا. لكن المهم هم الزبائن المنتظمون الذين ألفوا المكان وتظهر عليهم علامات النعمة الشاملة، من ماركة الحذاء حتى نوع الساعة والهاتف.. من هؤلاء أمهات شابات مصقولات رفقة أطفالهن. الفرجة الجماعية أفضل لمن يقدرون على دفع أربعين دولارا بفرح.. هذا مبلغ يصنع الفرق. في السوبرماركت يمكن للفرد أن يتجول مجانا دون أن يشتري شيئا. هنا من لا يدفع لن يدخل، ومن يقدر أن يدخل فلديه ترف الانشغال بالكماليات، وهو يبرهن على علو مرتبته الاجتماعية.
يأتي أبناء الأغنياء بسراويل جنز غالية وتنانير قصيرة. لكنهم محميون من شرّ القبيلة والسلفيين ولن تعتقلهم الشرطة بل ستحميهم. تؤكد رنة الضحكات أن زبائن المكان متحررون من الفزع من الحاضر ومتطلباته وقد أوصلهم المصعد الاجتماعي إلى السقف مبكراً.
في هذا المركّب السينمائي أبناء الأغنياء يأكلون ويتسلون في الظل.. حين تقع منهم بعض الذرة لا ينحنون لتناولها، تتبعهم امرأة في منتصف العمر تنظف البهو الواسع. تتبع المدللين لتجمع زبالتهم بصبر. يبدو أن عشرة آلاف عام من الفلاحة راكمت السلطة والثروة بيد الرجال، وفرضت على النساء مهناً صغيرة بدخل متواضع، ولن تنقذهن إلا المدرسة التي ستهدم قيم الفلاحين.
ضبط السوسيولوجي البصاص نفسه مندسا يلاحظ المكان بعدوانية. لا يتوفر على شروط العضوية هنا. يقلقه أن طفولته ومراهقته لا تشبه طفولة أبناء هذا الفضاء السحري. البصاص مندس قلق لأنه قد اضطر لبعض الأشغال الشاقة في طفولته.. مع الأسف يعرقل الوعي الشقي الفرح. هنا تتدخل الذات في الموضوع ويصعب الفصل بينهما. ويبدو أن سبب العدوانية هو أن المكان يصادف هوى في نفس السوسيولوجي البصاص. يريد أن يعيش أفضل من أفراد الطبقة التي ينتمي إليها، لكن هناك فجوة هائلة بين الأمنية والموارد اللازمة لتحققها. الحلم بالتسلق الطبقي مشروع والعداء مرفوض. يريد كل فرد إحداث نقلة في موقعه في السلّم الاجتماعي.
لقد قلّت القاعات السينمائية في المغرب ونزل عدد المتفرجين من 40 مليون متفرج في 1980 إلى مليون ونصف مليون متفرج في 2014. والغريب أن القاعات الشعبية تنقرض والقاعات الفاخرة تنتشر. في الانتخابات المشهد معكوس، إذ يقال إن جل المصوِّتين من فقراء البوادي والأحياء الشعبية. الأمر الغريب الثاني هو أن الجدل حول السينما أعلى من الجدل حول مقاطعة الانتخابات. يجري نقاش عن غياب القاعات ويقدم كسبب لغياب المتفرجين بينما هو نتيجة.
غياب القاعات نتيجة لا سبب. فصاحب القاعة تاجر فتحها حين كانت مربحة. حين أفلست هدمها وبنى عمارة. وعندما يعود الطلب سيعود العرض. عندما يعود الجمهور للقاعات سيعود التاجر لبناء قاعة جديدة. المشكل هو ضعف جاذبية الأفلام لدى الجمهور. ثم إن هناك عائقا سياقيا هو صغر السوق المغربي الذي يعرقل الحصول على عائد من الإنتاج.
في انتظار أن يعود الشعب للقاعات يندس السوسيولوجي البصاص مع أبناء النخبة الاقتصادية. وهو يبحث عن فيلم يأخذ بيده ويتجسس به داخل المجتمع وداخل روح الفرد. مع هذه الفيلم شعر بالامتلاء. شعرت أني مسحت ذاكرتي من أخبار الانتخابات.
في القاعة، يجلس المتفرج ووجهه للشاشة البيضاء العملاقة. يلقي نظرة على المقاعد المجاورة ثم يُخْلص وجهه للشاشة التي تتلون فور إظلام القاعة. بعد ربع ساعة إعلانات يبدأ الفيلم وتحل لحظة الخشوع. أبناء الأغنياء يثرثرون ويضحكون ويلعبون بهواتفهم في حضرة الفيلم. لم يتعودوا على الخشوع في مملكة الجمال.. السينما هي محراب الفن الحديث، وعدد الذين يشاهدون الأفلام يوميا أكبر من عدد مستهلكي باقي الفنون منذ نشأتها.
حين تتعرض مخيلتي للإنهاك، الجأ لأفلام لا تنطفئ تجدد طاقة المتفرجين. أقصد أمكنة فاخرة للمتعة لكنها مع الأسف توقظ وعيي الشقي، تخرجه من علبته السوداء. لو كان المغرب كله مثل هذا المركّب السينمائي لدفنت حسي النقدي.
قضيت الأمسية أتنقل بين القاعات أثناء العرض. هناك فيلم "نهضة" بن كينغسلي، ومهام توم كروز المستحيلة... على الشاشة صراعات تنتهي بالحسم. لا مجالات للتوافقات التي تنبعث منها رائحة النفايات. لا مجال في الأفلام لنظرية لا غالب ولا مغلوب. النهايات واضحة، وهذا بخلاف انتخاب مكاتب تسيير المدن بعد الانتخابات. هنا النهايات غامضة. من كانوا يتصارعون يتوافقون ويتواطؤون، فيشعر الناخبون بالخديعة. في السينما لا يساوم الخصوم بعضهم بعضا. لا بد من سحق الطرف الآخر. في السياسة يتعايشان بفضل الصفقات. ومع الصفقات التي تجري في المغرب اليوم تشوشت شبكات تفسير ما يجري. وحتى أعتى المحللين فقد البوصلة.
على كل الصحف المغربية عناوين انتخابية متشابهة، وهي تفسر التصويت بسلوك البدو والحَضر. ليس لدى السوسيولوجي البصاص مزاج للتكرار، لذا لاذ بالسينما من السياسة. يعتقد المثقفون أن أهم شيء هو السياسة وقد تمكنوا رغم قلتهم من فرض هذا الوهم. والحقيقة أن هناك أشياء أخرى مثل الفرجة التي تجمع مليارات من البشر لا يهتمون بالانتخابات ولا يعبدون عجل الديموقراطية.
طيب وما الذي يشغلهم؟ ما أساطيرهم؟
يشاهدون أفلام الرسوم المتحركة التي صارت تحقق أرباحا أفضل من حكايات الكبار المملة. كل يوم يكسر الأطفال أفق انتظار الكبار فيثيرون اهتمامهم بفضل أفلام صنعت رقميا.
بعد نهاية العرض وقفتُ في الباب أستطلع الموقف من الفيلم في وجوه المتفرجين. تظهر استجابة المتلقي للفيلم بالإعجاب أو النفور. هذا نقد سينمائي فطري. جلست أفحص وظيفتي. مهمة الناقد هي تفسير الإعجاب أو تبرير النفور.
النقد ضرورة في عهد هيمنة الصورة. النقد صعب ويحتاج لمعرفة وخيال. يؤكد إيمانويل كانط على دور المخيلة في بناء المعنى. حتى الطبخ، وهو أقدم مهنة، يحتاج خيالا خصبا، لكن عضلة الخيال صارت كسولة أمام الشاشة التي تقدم أفلاما لا يظهر فيها البشر الحقيقيون، وذلك في ظل سياق ثقافي انتصرت فيه العين على الأذن، والحواس على العقل، والشاشة على الكتاب.. مع تراجع تام للحس النقدي في سوق التسلية التي صارت تفصل البشر عن حقيقة واقعهم.

 

للكاتب نفسه