الوضع البشري في فصل مكتظ

يشرح الأستاذ لخمسين تلميذا في حجرة مساحتها ستين مترا. يتحدث من دون ميكروفون، لذا فوضع حنجرته سيء. يواجه ضغوطات متناقضة، أولها ضغط الوعاء الزمني لتحقيق الهدف. ثانيا ضغط المقرر التعليمي الذي ينبغي ختمه قبل الامتحان. ثالثا ضغط الاكتظاظ الذي يفرض رفع الصوت.
2015-12-03

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

يقدم الأستاذ العناوين الرئيسية للجزء الأول من مقرر الفلسفة لتلاميذ البكالوريا وعنوانها "الوضع البشري". وفيها تعريف هوية الشخص والغير، الأنا والآخر، وتحليل لماضي الإنسان والعلاقة المعقدة بين الذات والآخر والتاريخ. وتحديد للقوانين البيولوجية والنفسية والاجتماعية التي تخضع لها الذات. يستشهد الأستاذ بقول جون لوك في تعريفه لهوية الشخص بكونه كائناً عاقلاً قادراً على التفكير والتأمل.. وينتقل الأستاذ للآخر وخضوعه للقوانين الأخلاقية، ويختم بالمستوى التاريخي وفيه أن الكائن البشري يخضع لشروط حتمية تتطور باستقلال عن إرادة الأفراد.

يعرِّف الدرس النظري الشخص كجوهر مفكِّر. لكن حين تفحص الميدان تجد كائنات بيولوجية تتسابق وتتشاجر على المقاعد. توجد مقاعد قريبة من نافذة الفصل تصيبها الشمس ويتجنبها التلاميذ ويجلس فيها آخر من وصل.. هنا يصير المكان مصدر قلق للشخص قبل التفكير في الدرس. وهذا يضع حدا فاصلا بين الوضع البشري المجرد والمثالي الذي صاغه الفلاسفة من جهة والإنسان الواقعي من جهة ثانية.

هذا هو الصراع الأول، وفيه يخالف التلميذ وصية كانط التي تحث على الالتزام بمبدأ عقلي أخلاقي عملي..
أمام الأستاذ ساعة لينجز الدرس، يدخل التلاميذ ويجلسون في عشر دقائق، بقيت خمسين دقيقة لخمسين تلميذ. هذا وعاء زمني محدود ولا يشبه الزمن التاريخي الذي يقاس بالقرون. الدرس هو لحظة حجز في عالم مادي لمدة ساعة.

يشرح الأستاذ لخمسين تلميذا في حجرة مساحتها ستين مترا. يتحدث من دون ميكروفون، لذا فوضع حنجرته سيء. يواجه ضغوطات متناقضة، أولها ضغط الوعاء الزمني لتحقيق الهدف. ثانيا ضغط المقرر التعليمي الذي ينبغي ختمه قبل الامتحان. ثالثا ضغط الاكتظاظ الذي يفرض رفع الصوت. وهذه الضغوط قد تفجر حنجرة الأستاذ أو قلبه. للإشارة يعاني ثلث المدرسين من الضغط الدموي والسكري.

عادة يقدم درس الفلسفة لثمانية وأربعين تلميذا، ولا يحضر الثلاثة اليائسين إلا يوم الامتحان. يراقب الأستاذ واحدا وخمسين تلميذا دفعة واحدة كي لا يغشوا ويُتوقع أن يكون التقويم سليما. وبما أن لدى الأستاذ عشرة فصول، في كل فرض خمسين ورقة، وعليه تصحيحها، وعليه أن يكون دقيقا وعادلا.

يركِّز درس الوضع البشري على المثال الجامع ولا مكان فيه للحالات الفردية. في الدرس تجريد كثير، بينما هنا نعرض حكاية وضع ملتصق بالأرض ونَصِف التجربة. إنه التفكير في الوضع البشري هنا والآن، يقول فيلسوف يوناني بأن "الفكر هو الدم الذي يحيط بالقلب". من يفكر في الفصل الدراسي يجده كبطن مزدحم. في معجم المعاني اكتظ أي ازدحم. واكْتَظَّ مِنَ الطَّعَامِ امْتَلأ بَطْنُهُ حَتَّى لَمْ يُطِقِ الحَرَكَةَ.

في باب الوضع البشري بالمستوى الابتدائي هناك الضم، ويعني تكليف معلم بتدريس العربية والفرنسية بعدة مستويات في فصل واحد. وقد تدهور التعليم بسبب الاكتظاظ وزيادة حصص الأساتذة والضم في العالم القروي.. حسب منظمة اليونيسيف فإن 30 في المئة فقط من تلاميذ قرى المغرب يلجون التعليم الثانوي.

قد يكون الوضع البشري مقبولا في الابتدائي، لأن الأجساد الصغيرة لا تسبب ازدحام الفضاء. في الثانوية والجامعة أجساد الطلبة أكبر. عمليا سيحال أربعون في المئة من الأساتذة الجامعيين على التقاعد بين 2018 و2020، ونظريا يقول رئيس المجلس الأعلى للتعليم بأن الجامعة المغربية بحاجة إلى خمسة عشر ألف أستاذ في أفق 2030.. وفي انتظار تعيينهم فوزارة التعليم العالي ترقّع بما توفر، أي بمزيد من الاكتظاظ والزحام، وهذا طبعاً يضر بجودة التعليم.

زحام في الفصل، زحام في الثانوية وزحام في الشقق. يعيش أبناء الزحام في شقق من ستين متراً، وفي كل عمارة من أربع طوابق عشرين شقة. أربع شقق في كل طابق، في كل شقة سبعة أشخاص على الأقل في أسرّة ممتدة، وهكذا يعيش أكثر من مئة وأربعين شخصا في عمارة مبنية على مساحة مئتين وستين مترا. واقع بشري مكتظ. أكثر من أربعة آلاف شخص في الكيلومتر المربع اليائس. الزحام يسبب الإحباط والكراهية. من يعترض لم يعش قط في الزحام. تشتكي تلميذة من جحيم التواجد مع الغير في الفصل، تعتبر الفصل مكتظا بعقول فارغة. التعبير الوحيد عن الذات هو السخرية من الأخر وغالبا ما يتم توجيه السخرية لتلميذ معين وبشكل جماعي.

في 2008، أعلنت وزارة التعليم عن برنامج للحد من الهدر المدرسي (التسرب من التعليم) والحد من الاكتظاظ. في 2015 أعلن وزير التعليم إن "15 ألف فصل تضم بين 41 و45 تلميذا". لم يقل الوزير 50. السوسيولوجي البصاص لديه الدليل. وأضاف الوزير أن عدد تلاميذ المدارس المغربية اليوم هو 6 ملايين و400 ألف تلميذ بزيادة 4 في المئة منذ 2013. ويبلغ الاكتظاظ 9 في المئة في الابتدائي، و23 بالمئة في الثانوي. وهذا يفسر نسبة الانقطاع في الثانوي والتي تصل إلى 14 في المئة. يبدو أن الهدر المدرسي، أي مغادرة التلاميذ إراديا للثانويات يخفف الاكتظاظ.

خلاصة منطقية: من دون هدر سيكون الاكتظاظ أشد.

خلاصة واقعية: كلما زاد التلاميذ زادت حرارة الفصل، كل تلميذ زائد يرجع بالدرس للخلف، يصير التركيز والإنصات عسيرا. الوضع البشري في الفصل كثيف بحضور الأنا والآخر. ركز الفلاسفة على الذات وركز هيغل على الغير. يوتر الاكتظاظ العلاقة مع الغير. الزحام يضعف الفردانية ويقوِّي القطيع، لذا تختلط الرغبات الحقيقية بالمزيفة وتكثر الاستجابات غير المطابقة.

الغير هو الجالس بجانبك، والمسافة قليلة لذا يحصل الاحتكاك. في قسم مكتظ لا قيمة للأستاذ ولا سلطة له، لا يرى كل مَن أمامه ولا يعرف أين سينظر، وغالبا ما ينظر للجهة الأكثر شغبا.. في الدرس يكثر الإزعاج والصراخ وتقليد أصوات بعض الحيوانات، أو يتم الدخول في دردشات ثنائية. يبدو أن الشفتين هما الأكثر نشاطا في جسم التلميذ.. أحيانا يتولى الببغاوات ترديد الكلمة الأخيرة من جمل الأستاذ فيضطر للإملاء للحصول على القليل من الصمت.

هذا وضع جعل التلميذة المستجوَبة تكره الحضور للمؤسسة، وتفضل البقاء في البيت لإنجاز تمارين الرياضيات والفيزياء. مع الاكتظاظ في المدرسة العمومية لا بد من دروس خصوصية.

الوضع البشري في الفلسفة مصقول ومثالي ولا يحتاج دروساً خصوصية. لكن الواقع على الأرض في المدرسة معتل ويحطِّم النموذج المثالي. في الدرس النظري الآخر مثالي، لكن الآخر الواقعي في الفصل هو كتلة وعرق وعنف.. وهذه حقائق تزعج التصور الرومانسي للمدرسة العمومية.

إن هوية الشخص ـ في تصور شوبنهاور ـ تتمثل في الإرادة، أي في أن نريد أو لا نريد. لكن مدير الثانوية في الواقع يريد ولا يستطيع زيادة فصل آخر لأنه لا يتوفر على قاعة وعاجز عن توفير أستاذ، والحكومة لا تستطيع أن توظف لأن صندوق النقد الذي يُسلّفها لا يريد. توجد الإرادة وراء الأطلسي ويوجد العجز هنا.

سيدفع المغرب ثمن هذا الاكتظاظ من مستقبله، وهذه مقدمات: إن نصف الناجحين في الانتخابات الجهوية والبلدية العامة في أيلول/ سبتمبر 2015 لم يتجاوز تعليمهم المستوى الابتدائي.. ونتيجة للتعليم في هذا الوضع البشري، فإن بطالة المتعلمين هي خمسة أضعاف بطالة غير المتعلمين. سيستنتج أي ملاحظ بسيط ما يلي "كن أمياً لكي لا تكون عاطلا عن العمل". مع انتشار فكرة كهذه يصعب إقناع التلاميذ بتحمل الوضع البشري في المدرسة العمومية.

 


وسوم: العدد 171

للكاتب نفسه