الرأسمال يقوم بتحديث الريف

باع أحفاد أحد الأعيان الأمّيين الحقل الذي زُرع فيه الشعير لعشرات السنين. تم البيع بثمن جيد بعد أن شقت الحكومة طريقاً بجانب الحقل. في ظرف ستة أشهر بنى مستثمران مدينيان فوق الحقل معصرة زيتون ومزرعة دجاج. صار الفلاح الذي كان يزرع الفول بجوار حقل الشعير بوّاباً للمعصرة وصارت زوجته التي كانت تعجن له بائعة خبز وشاي لزبائن المعصرة الذين ينتظرون دورهم. هكذا صار للرجل وزوجته دخل ثابت غير مرتبط
2015-12-17

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حامد عويس - مصر

باع أحفاد أحد الأعيان الأمّيين الحقل الذي زُرع فيه الشعير لعشرات السنين. تم البيع بثمن جيد بعد أن شقت الحكومة طريقاً بجانب الحقل. في ظرف ستة أشهر بنى مستثمران مدينيان فوق الحقل معصرة زيتون ومزرعة دجاج. صار الفلاح الذي كان يزرع الفول بجوار حقل الشعير بوّاباً للمعصرة وصارت زوجته التي كانت تعجن له بائعة خبز وشاي لزبائن المعصرة الذين ينتظرون دورهم.
هكذا صار للرجل وزوجته دخل ثابت غير مرتبط بالطقس. صار الرجل يحصل على أجر شهري وزوجته تحصل على مبالغ متغيرة. لم يجلب المستثمران أقاربهما لمعاونتهما، مع أنه ولسنوات طويلة تمت مواجهة مشاكل التشغيل بناء على قاعدة غريبة تقول "أيّ عامل جلبته سيسرقني، يستحسن أن يسرقني أخي أو ابن عمي". حاليا تتراجع صلة الدم بين العامل ورب العمل وقد تزول. وهذا التحول يفرض علاقات تعاقدية جافة. ويشتد هذا الجفاف حين يكون العامل فلاحا ترك حقله وانتقل من منطقة غير مزدهرة فلاحياً إلى منطقة تنتج الكثير بفضل تربة خصبة وسقي قوي ورأسمال يدير الأرض والبشر. في ظل زيادة الإنتاج لن يجوع الفلاحون ولن يتمردوا. هكذا تساهم الفلاحة في صناعة الاستثناء السياسي المغربي، فتوفر الأكل بالمكان عينه ويسهل الوصول إليه. وهذا يقلل البؤس والتمرد. الجديد في هذا المشهد هو أن الفلاحين سينقرضون لأنهم سيصبحون بروليتاريا ريفية.
تعمل المعصرة بالكهرباء ولا يجرّها الحمار الذي يتعشى بالشعير. بعدها استأجر صاحب مزرعة الدجاج ـ وهو بيروقراطي في الرباط ـ حقل الفول وسيّجه وزرع فيه الفراولة التي تُحوّل لمربى. هكذا انتهت الفلاحة ما قبل الصناعية.
صار الرجل وزوجته عاملين بعد أن رحل أولادهما للمدينة. وحدها العائلة الممتدة تصمد في الحقل، ويصعب على عائلة نووية أن تستمر في حقل بوري. يساهم تماسك العائلة في الاقتصاد الزراعي، حينها تكون الأسرة هي نفسها القوة العاملة ويكون الحقل مربحا. وحين تستأجر الأسرة الريفية التقليدية عمالاً من خارجها تفلس لأنها تفتقر للتمويل ولمعرفة أساليب وتقنيات الزراعات الموجهة للتصنيع.
ويؤدي صراع الورَثة لوقف الحرث أو تشتيت قطعة الأرض. وغالبا ما يأتي البيروقراطي ـ الذي جمع مالاً لبداً لأنه يسكن ويأكل ويتنقل على حساب الدولة ـ لشراء الأرض المتنازع عليها.
يتكرر هذا المشهد التركيبي بكثافة في بوادي المغرب حاليا في الشمال الغربي. أما في الجنوب الشرقي فتجتث النخلات المصابة بمرض البيوض ويزرع بدلها بطيخ ويقطين على رمل دافئ يُسقى بالتقطير فيصل بطيخ الجنوب للأسواق قبل بطيخ الشمال.
بفضل السقي تأتي الغلة باستمرار متوسطة أو كثيفة. يقول المغاربة عن الفلاحة البورية: الحرث كل عام والغلة (الصابة) حسب المواسم. حاليا الطبيعة غاضبة، ويعتقد الفلاحون أنه كلما كان الشتاء أبرد كان الصيف أشد حرارة. صار الطقس عدوا للفلاحين، فبفضل التكنولوجيا لم يعد الفلاح يقبل عبث الطبيعة.
صار المقاول العقلاني ينتج رغم الطقس. بين العامين 2008 و2014 ارتفع إنتاج اللحوم من 400 إلى 500 مليون طن. ارتفع عدد الأغنام من 16.5 مليون رأس إلى 19.5 مليوناً، وارتفع عدد الأبقار من 2.5 مليون رأس إلى 3.3 مليون رأس. وقد حقق المغرب الاكتفاء الذاتي من الدجاج والبيض واللحم والحليب: يبدأ استقلال الفرد واستقلال الدولة من المعدة.
سيتقوى مشهد التحول الفلاحي قريبا بعد أن تُنهي الحكومة تعبيد 17 ألف كيلومتر من الطرق في البوادي والقرى. كل طريق يفتح باباً للمصابين بجوع الأرض للشراء وإنشاء مزارع، لأن القطاع الفِلاحي معفى من الضرائب. وهذا يشجع المقاول الذي يملك المال والمعرفة، فيحوز الأرض ليطبق عليها معارفه الزراعية. لكن الفلاح الجديد لا يأكل مما يزرع، ولا يبيع محصوله فورا، بل يستطيع أن ينتظر حتى ظهور الثمن الذي يناسبه.
يركز المقاولون الكبار على زراعة ما سيصدَّر. ولديهم الوسائل والموقع. فالتصدير وملايين السياح سنويا وتزايد السكان يزيد من الطلب على ما يؤكل. ولتوفير المطلوب، يجب تطوير الوسائل الفِلاحية لتحقيق منتوج أكبر كل عام أكثر من العام السابق. حاليا سوق الآلات الفلاحية ينتعش، الطرق المعبدة تربط مناطق كثيرة بالموانئ والمدن.. فالسوق الأوروبية قريبة، لذا تزداد المساحات المزروعة.
وتفرض الزراعة التجارية علاقات اجتماعية وسياسية جديدة. صار العمال الزراعيون يحظون باحترام كبير. زاد أجرهم. فرضوا العمل بشكل متصل حتى الرابعة عصراً وانتهى عهد العمل من شروق الشمس إلى غروبها. تزايد عدد النساء المنحنيات.. لذلك لا تزيد البطالة في الريف عن أربع في المئة.
لجوع الأرض نتيجتان، الأولى هي تطوير الزراعة بمنطق تجاري. والثانية هي تضاعف ثمنها إلى ما لا نهاية في البوادي، وهذا يصيب أصحابها بالغرور. وفي هذا فرصة، حين تثقل الديون على الفلاحين يجدون أن بيع الأرض الغالية مفيد، يدفعون الديون ويشترون بيوتا في المدينة ويصيرون قاعدة انتخابية في مكان جديد. هكذا يُولّد الرأسمال الذي يدخل الريف حركة ديموغرافية لها أبعاد سياسية. وبالنظر لنتائج الانتخابات البلدية في أيلول/ سبتمبر 2015، سيكون لتقطيع الدوائر الانتخابية أهمية كبيرة في الانتخابات البرلمانية في أيلول/ سبتمبر 2016. ستُلحق بوادٍ كثيرة بالمدن ليحقِّق تصويت الفلاحين التوازن. وفي كل انتخابات لا بد من تقطيع جديد.
القطاع الفلاحي معفى من الضرائب في المغرب، والدولة معنية برضا الفلاحين الذين صوتوا للأحزاب المقربة من السلطة في الانتخابات البلدية. وقد وضعت الدولة العميقة صندوقا من خمسة مليارات دولار موجهة للفلاحين، وتقرر أن يكون وزير الفلاحة وليس رئيس الوزراء هو الآمر بالصرف. وزير الفلاحة، وهو ممثل القصر في الحكومة، مشهود له بقدرات تدبيرية مهولة، وهو ملياردير قبل دخوله للحكومة ولم يشِر له أحد بالفساد. حتى من قبل خصومه في منطقة آغادير الذين يتهمونه بالسيطرة على الناخبين. من الأفضل اتهام الناخبين بالطمع والخضوع. وسيصرف الوزير المليارات في مناطق ريفية.
ما هي علاقة الفلاح بالسلطة؟
يُحكى أن أحد قيادات وزارة الداخلية خرج يوما إلى السوق الأسبوعي في أحد الأرياف مع مساعده، فلمح تفاحا تناثر من صندوق فقال للفلاح "اجمع هذا التفاح"، وصحح الفلاح للقائد بأن هذه طماطم خضراء وليست تفاحاً، لكن مساعد القائد نهر الفلاح "قال لك اجمع التفاح يعني اجمع التفاح".
مشكوك أن يقبل فلاح 2016 تصحيح الشرطي المرافق للقائد. لم يعد الفلاح مغفلاً، صار يميز بمفرده بين التفاح والطماطم.

للكاتب نفسه