غرفة الجلوس: صغرت الصحون وكبر التلفزيون

شقة في عمارة حديثة تفوق مساحتها ثمانين مترا، جدران قليلة وغير سميكة، إدارة حكيمة للمكان، نوافذ كبيرة جداً، خضرة بلاستيكية أبدية، مرايا كثيرة للاطمئنان على المظهر. تعدد المصابيح حتى لو كانت لا تستخدم كلها. في هذا الفضاء المنزلي الجديد حيث تقطن طبقة متوسطة تم إخفاء الأحذية تماماً عن الأنظار. سيدة البيت تنظم كل شيء حسب ذوقها في غياب تام للحماة. في هذا الفضاء يُربّى الأطفال دون جدات. لقد
2016-03-03

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
حسان مناصرة - الأردن

شقة في عمارة حديثة تفوق مساحتها ثمانين مترا، جدران قليلة وغير سميكة، إدارة حكيمة للمكان، نوافذ كبيرة جداً، خضرة بلاستيكية أبدية، مرايا كثيرة للاطمئنان على المظهر. تعدد المصابيح حتى لو كانت لا تستخدم كلها.
في هذا الفضاء المنزلي الجديد حيث تقطن طبقة متوسطة تم إخفاء الأحذية تماماً عن الأنظار. سيدة البيت تنظم كل شيء حسب ذوقها في غياب تام للحماة. في هذا الفضاء يُربّى الأطفال دون جدات. لقد تغيرت بنية الأسرة المغربية في الثلاثين سنة الأخيرة. في 1982 كان 51 في المئة من الأسر نووية و40 في المئة مركبة. وفي 2004 ارتفعت نسبة الأسر النووية إلى 63 في المئة وانخفض عدد الأسر المركبة إلى 28 في المئة. تفككت العلاقات الأسرية بسبب تراجع الحاجة للعون المتبادل.
لذلك لم يعد البيت بحاجة لطاولات كبيرة لغذاء العائلة. هناك طاولات صغيرة لوجبة فرد أو اثنين. انقرضت الطاولات الكبيرة التي يوضع عليها صحن كبير مشترك. صغرت الطاولات والصحون وكبر التلفزيون الموضوع في غرفة الجلوس.
غرفة الجلوس مختلفة عن غرفة الشاعر كما وصفها علي محمود طه. شاعر نحيف منهمك في الكتابة مستغرق في تأملاته بجانب ضوء سراج شاحب وموقد ينطفئ. زعم نقاد الأدب أن الشحوب والذبول تعبير عن مشاركة السراج والموقد للشاعر همومه وأحزانه.
غرفة الجلوس مبهجة بفضل التلفزيون الذي يجمع الناس حوله بسهولة. انتهى زمن تحلّق الأسرة حول الأب لتبادل الحكايات والقفشات، استبدل مواطن اليوم الموقد بالشاشة واستبدل التأملات بالفرجة الفردية. لربح الوقت، يتم تناول الأكل وقوفا في المطبخ، قد لا يحضر الجميع للوجبة، لذا صارت الوجبات فردية ومشاهدة التلفزيون فردية. وتضمن إعادة بث الأفلام والبرامج تحرير وقت المشاهدة، ليشاهد كل فرد من الأسرة ما شاء متى شاء. وبما أن هناك عدة شاشات فلن يقتل أي فرد قريبه بسبب الريموت كونترول.
لا يتوقف التلفزيون عن الدعاية لمختلف أشكال الأكل، لذا غالبا ما يقارن المتفرج بين ما يوجد في صحنه وما يُعرض على الشاشة. الفارق يسبب الحسرة خاصة للأطفال والمراهقين. يتخيلون أنفسهم في فضاء تقديم تلك الوجبات، لذلك يحتقرون ما يوجد أمامهم على الطاولة. يتوهم الأطفال أن التلفزيون أهم من الأكل.
يعرض التلفزيون إعلانات مطاعم وجبات سريعة ومختلفة للاختيار. يوجد الاختيار في الإعلان لا في البيت. هنا كلْ ما أمامك أو ستجوع. أنت مكره. لذلك يُقبل الكبار على التهام ما يوجد أمامهم لأن الواقع روض خيالهم. ما عادوا يحلمون ويشكرون الله على المتوفر. الأطفال والمراهقون يريدون الأفضل وغالباً ما يأكلون لاحقا مرغمين ما رفضوه لأن الجوع يقمع الخيال.
هناك إكراه آخر، في المنزل لا بد من تدبير عبء الأواني، يجب إرجاعها للمطبخ ويقع العبء على الجميع، انتهى نظريا زمن التقسيم التقليدي للعمل المنزلي. لكن هناك امتيازات، لأن هذه طبقة وسطى اقتصاديا لا ثقافيا. يمكن للمراهق أن يأكل ثم يخرج، بينما على البنت أن تتجه للمطبخ لغسل الأواني. امتياز الذكورة يوفر الحماية لصاحبه، لذا يأمر نساء البيت بتنظيف المكان ويتفرغ للفرجة.
يُتهم التلفزيون بنشر العنف، وكأن قتل البشر لبعضهم البعض بدأ في القرن الماضي. التلفزيون يسلي ويسوق الأحلام. يتعايش فيه الترفيه الصاخب والتطبيع مع الواقع الصادم. صار موت البشر أشبه ببوار سلع رخيصة مثل دجاج أو حليب.. بفضل التلفزيون غدت غرفة الجلوس هي مقر السلام. تقول الإحصاءات أن أطوار العنف الزوجي تجري في المطبخ وغرفة النوم حيث ينظر الزوجان في عيون بعضهم. لذلك صارت غرفة الجلوس هي مكان للسلام بفضل التلفزة التي صارت المشترك الوحيد بين سكان البيت، ينظرون للتلفزة متجاورين بدل فحص التواصل السلبي أو الإيجابي فيما بينهم.
بسبب برودة العلاقات وثقل الوحدة، تزايد استهلاك الصور للتعويض عن العزلة. تفضل النساء متابعة القنوات التي تقدم الأخبار الطيبة فقط، يشاهد الرجال القنوات الإخبارية التي تسيل شراً وتسد الشهية. نقلت قناة قول جون كيري: إذا لم تتمكن الفصائل الليبية من الاتفاق فستصبح ليبيا دولة فاشلة. وعرضت قناة أخرى ما كتبته جريدة شهيرة "سوريا تدخل المرحلة الحرجة". كتب هذا في شباط/ فبراير 2016 بينما الخبران يليقان بعام 2011.
يتحدث التلفزيون عن الحلفاء وداعش والقصف والمهاجرين.. الثابت الوحيد هو أن كل المحاربين يقاتلون من أجل الحق وخدمة الله والدين ولا واحد يحارب من أجل السلطة والأرض والغنائم والنساء المسبيات.. هكذا تصوغ القنوات صورة أربابها، وجلها تجد أن أسهل تفسير يبرئ الأرباب والشعوب المفككة ويحقق الإجماع هو اتهام أميركا.
على الشاشة، تكثر الإثارة في الإعلان والأخبار والمسلسلات. الإثارة ضرورة اقتصادية وسياسية، صارت الشاشة نافذة الفرد على العالم. وتختار له النافذة ما سيعرفه. يغير القناة فتتغير الحقائق. غير الدولة تتغير الحقائق. لقد أكد أحد تقارير التنمية الإنسانية العربية بأن "السلطة السياسية في البلدان العربية تعمل على تدعيم النمط المعرفي الذي ينسجم مع توجهاتها وأهدافها، وهي بالضرورة تحارب الأنماط المعرفية المعارضة". ويمثل التلفزيون السلاح الأمثل لهذا الدعم وهذه الحرب.
الجمهور تحت رحمة التلفزيون لينمِّط ذوقه. لا ضرورة للذكاء في التلفزيون لأن الذكاء الشديد يضعف العاطفة، وهذا يضعف التأثير على الجمهور، والتحليل لا يثير اهتمام الأغلبية. رفع مستوى التحليل يضعف التأثير على الجمهور. قال ابن خلدون "شدة الذكاء عيب في صاحب السياسة".
لقد أحدثت الثلاجة ثورة في المطبخ، ساعدت على حفظ الأكل وبذلك انفصل وقت الطبخ عن وقت الأكل. يمكن الطبخ في أي وقت والأكل في أي وقت. وقد أحدث التلفزيون ثورة في غرفة الجلوس. تغير تصميمها وتأثيثها في عصر التلفزيون. في دول جنوب المتوسط لا مكان للمدفأة في المنزل. لذا فالناس يتجمعون حول التلفزة وهي مدفأة الخيال. كانت المشاهدة الجماعية والتعليقات المتبادلة تزيد من كثافة وتأثير ما يشاهَد ثم كثرت الشاشات وعزلت كل فرد في غرفته وجعلته ينسى الكتاب. ما العمل؟ في فيلم A Love Song for Bobby Lang كسر بوبي – جون ترافولتا - التلفزة فانشغلت صديقته بالمطالعة لأول مرة في حياتها. لتعزيز فكرة حضور الثقافة في البيت، هناك كتب في كل مكان، في المطبخ وحتى في المرحاض. من فرط حبه للكتب، يحلم بوبي أن يسكن في الجنة مع لورد بايرون والماركيز دو ساد وإرنست همنغواي...
لا مكان لهؤلاء في غرفة الجلوس. 

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه