«858»: الأرشيف كفعل مقاومة.. كنا هنا، ماذا بعد؟

حوار بين "مدى مصر" وثلاثة أعضاء من تعاونية «مُصرين» وصناع «858»، وهم «كاربون» و«كريبتون» و«بلوتونيوم»..
2018-02-15

شارك

نُشر النص الأصلي لهذا الموضوع في موقع "مدى مصر"، وهو منصة إلكترونية تأسست في مصر، ونعيد نشره هنا بالاتفاق مع الموقع. في إطار حملتها المستمرة للتضييق على الصحافة، حجبت السلطات المصرية "مدى مصر"، ضمن مواقع أخرى. والتزامًا منا بمبدأ حرية الصحافة واستقلاليتها، يقوم "السفير العربي" بإعادة نشر نصوص ينتجها "مدى مصر" لمساعدة الموقع في التغلب على إجراءات الحجب والوصول إلى القراء داخل مصر.


في 16 يناير 2018 أطلقت تعاونية «مُصرين» أرشيف «858» الذي يحتوى لقطات مصورة بدأت جمعها منذ سبعة أعوام، بالتحديد بعد وقت قصير من تسمية التعاونية ذاتها التي انطلقت من الخيمة الإعلامية في اعتصام التحرير 2011.

هذا الأرشيف المستضاف على باندورا (وهي منصة تقدمية مصمَّمة لاستضافة أرشيفات الميديا ذات المحتوى المصور المصحوب بحواشي نصية كثيفة)، يحدِّق بنا، منتظرًا منا التحديق به في المقابل، لنفكر في سؤال ماذا بعد؟ وماذا وراء استدعاء اللحظات التاريخية التي قام بتجميدها.

بسبب حماسنا، أجرى محررونا: لينا عطالله، وليلى أرمن، وياسمين زهدي، ومسؤول التواصل الاجتماعي أحمد منجي، والمتدربتان في مدى: ندى نبيل وفريدة حسين، هذا الحوار مع ثلاثة أعضاء من تعاونية «مُصرين» وصناع «858»، وهم «كاربون» و«كريبتون» و«بلوتونيوم»*، الذين يشتغلون بدورهم في مجالي صناعة الأفلام والكتابة. تحدثنا عن عملية بناء «858»، وكيف يمكن أن يكون منصة مفتوحة، تفرِّخ أرشيفات أخرى، وتساعد في تخليق دورة جديدة للمواد المصورة التي تحتويها في مشاريع توثيقية أو أعمال فنية، وأخيرًا عن العلاقة بين فكرة الأرشيف وبين فكرتي الموت والخلاص.

* تم استخدام الأسماء المستعارة لأعضاء «مصرين» الذين أجرينا معهم الحوار، والتي يعرّفون بها أنفسهم على موقع «858»، بناءً على طلبهم.


لينا عطالله: كيف أتت فكرة بناء الأرشيف؟ لدينا انطباع أنها أعقبت لحظة معينة من الصمت، بالتالي علينا أن نسأل هل كانت هناك عملية تفكير وتأمّل في ماهية الأرشيف موازية لإنتاجه؟

 

«كاربون»: انطلقت فكرة «مُصرين» حينما شهد أحد مؤسسي التعاونية مهاجمة الجيش للميدان في 24 فبراير 2011، وفكر أن نوعًا من الأرشفة سيكون ضروريًا. بدا واضحًا أن الثورة ستكون عملية طويلة. لذلك فمن بدايتها الأولى، أنشئت «مُصرين» لأرشفة وجمع المواد التوثيقية. بدأت المجموعة في إنتاج الأفلام مع أحداث ماسبيرو. وعبر سنوات الثورة حاولنا جمع المواد بإيقاع معقول، ثم تحول الأمر ليصبح سؤالًا حول كيفية تقديمها. توقفنا عن صنع الفيديوهات في 2013 بعد الانقلاب. ومر عام دون أن يصنع أحدنا أي شيء. في 2014 بدا واضحًا أننا نحتاج لمناقشة كيفية الشروع في هذا الأمر.

«كريبتون»: مبدئيًا كان هناك الكثير من النقاش حول كيفية إنجاز الأرشيف، وتم بذل الكثير من الجهد لتجميع كل الأفراد مرة أخرى، وحثهم للقيام بالعمل الفعلي. ثم فكرنا أنه من الصعب القيام بالأمر هنا لأسباب أمنية، وأسباب أخرى، فقررنا القيام باستراحة خارج البلاد، وكانت الاستراحة الأولى في نيويورك، في أغسطس 2016.

قبل أي نقاشات تقنية، كانت لدينا عدة أسئلة فيما بيننا، مثل من هو المخاطب بهذا الأرشيف؟ وما هو الأرشيف؟ كانت هناك العديد من النقاشات الأيديولوجية والفلسفية والنظرية حول ذلك. تحدثنا أيضًا إلى أناس من موقع Pad.ma، وأناس آخرين حول الأرشفة. خضنا الكثير من النقاشات متعلقة بالأمان أيضًا: ماذا نعرض وماذا لا نعرض؟ إن استثنينا أشياء لاحتمالات الخطر فهل نحن بصدد تعقيم الثورة؟ فمثلًا كانت هناك  لحظات عنف ثوري، مثلت شكلًا من أشكال المقاومة، إلا أن عرضها الآن قد يشكّل خطرًا على الأفراد.

 

لينا: في اجتماعاتكم المبكرة، حين كنتم ما زلتم في طور النقاشات الأيديولجية حول فكرة «الأرشيف»، هل كانت هناك لحظة «كشف» واستنارة فكرية محورية.

 

«كريبتون»: لا أتذكر أنه كانت هناك لحظة استنارة واحدة كبيرة. لكن فعل بناء أرشيف في حد ذته، هو فعل تقويض للسلطة والسردية الرسمية، بالتالي كان هناك شعور، على الأقل لدي شخصيًا، أننا نصنع شيئًا ما. كانت هناك حالة شلل بعد الانقلاب، وكل العنف الذي تلاه، وشعرنا أن إسهامنا وتدخلنا محدود للغاية. كان عظيم أن نعمل سويًا ثانيةً. وكنا قد اضطررنا للتخلي عن مقّرنا، والتعاونية لم تعد تعاونية بالشكل الذي كانت عليه. كان التواجد الفيزيائي في نفس الفضاء والعمل سويًا مرة أخرى ممارسة علاجية، بمعنى من المعاني، بالنسبة لي. لكن كان هناك العديد من الجدالات.

 

الجميع: بشأن ماذا؟

 

«كاربون»: كانت هناك الكثير من الأسئلة حول: من سنسميه «مؤلف» أو «صانع» هذا الأرشيف؟. لم يشأ العديد منا تسمية الأرشيف على اسم «مُصرين»، وإنما أردنا اسمًا أوسع ليبدو منتميًا لأكبر عدد ممكن من الناس. كان هناك سؤال حول إن كان يجب أن نترك أسماء المشاركين في التعاونية مرتبطة بالأرشيف، وكان هناك سؤال الأمن بالطبع. ما أدركناه جميعًا أننا لسنا مؤلفون لمجرد أننا حملنا كاميرات وصورنا مشهدًا. لذلك خلصنا إلى اقتراح يقضي بأن أكثر الطرق ديموقراطية هو نزع أسماءنا عن الأرشيف. كانت هذه نقطة جيدة بالنسبة لي.

«كريبتون»: لم نضع أسماءنا على أي شيء من قبل. «مُصرين» كانت دائمًا تعاونية. صاغ أحد المؤسسين الأمر بشكل طيب حينما قال: نحن لا نجهِّل، بل نعمِّم. استخدم كل منا اسمًا مستعارًا في الأرشيف، هناك: «مُصرين صرصار» و«مُصرين عرسة». وبالنسبة للمصورين الآخرين، تركنا لهم حرية فعل ما يشاؤون، استخدام أسماءهم الكاملة أو الأولى أو أسماء مستعارة.

 

ليلى أرمن: لمَ لم تكن هذه النقاشات بدورها مفتوحة، أي علنية ومتاحة وقابلة لمشاركة أوسع، مثل مقاطع الفيديو التي تعرضونها؟

 

«كريبتون»: هناك نص فيه نوع من الإجابة لما نُضمنه وما نستبعده. أشعر أن هناك حساسية سياسية في جعل النقاش مفتوحًا بالكامل. لكننا صرحاء مع أي أسئلة.

«بلوتونيوم»:  كشخص مشارك بمواد مصورة في الأرشيف، أعتقد أن بالمجموعة تيارات مختلفة كافية بالنسبة لي. خضنا نقاشات حادة، وكانت هناك فرصة لأي شخص من خارج التعاونية، ولديه أسئلة أو استفسارات، أن يطرحها علينا لنناقشها. لكن أعتقد أن لو جرى الأمر بأي شكل آخر لأصبح فوضويًا، ولربما أدى إلى وضوح أقل.

 

لينا: لماذا قررتم استخدام واجهة للموقع بالإنجليزية فقط، وهل نحن في انتظار واجهة عربية على منصة باندورا؟

 

«كريبتون»: بنينا نظام القائمة بالكامل بالعربية حتى يمكن تحويله بسهولة، لكن المشكلة الرئيسية أن الوسم تم بالإنجليزية في البداية لذلك كان من الصعب التحويل. هذا الأمر مصدر قلق تحدثنا عنه قبل الإطلاق. ليس من الصعب ترجمة الموضوعات والأماكن للعربية. المشكلة أنه لا يوجد زر فوري لتغيير الإعدادات على باندورا، يمكنك الضغط عليه لتغيير اللغة. لذلك نحاول أن يكون الموقع ثنائي اللغة، أو أن تحل العربية محل الإنجليزية بالكامل، وهو ما يمكن أن يكون خيارًا. 99.9% من الأرشيف بالعربية أساسًا. بإمكانك تغيير إعدادات القوائم لكن ليس المحتوى. أغلب الناس يعرفون كيفية استخدام القوائم وليس هذا ما نريد تغييره. نحاول إيجاد طريقة وما زلنا نناقش الأمر.

 

لينا: الأرشيفات عادةً مهولة وكاسحة. لدينا 858 ساعة من المادة المصورة، لكن بداخلها هناك لحظات محورية خاصة لها تأثير يختلف من شخص لآخر. أثناء عملية النشر، كيف تتعاملون مع خصوصية هذه اللحظات. هناك مثلًا تواريخ حساسة مثل 25 يناير، 28 يناير، 11 فبراير، إلخ؟

 

«كاربون»: لـ 25 يناير أردنا أن ننشر مقطعًا من 20 ثانية من فيديو أرشفناه يصحبه تعليق يقول «هاك 20 ثانية من هذا الفيديو أو هذا الوسم، تعال وانظر». عندنا مثلًا فيديو مثير للاهتمام حقًا، يعرض زاوية مختلفة لمعركة قصر النيل، وهو مصور بعناية، ويشبه أشرطة الفيديو المنزلية. صورة الكاميرا بها بعض من ذلك «التحبيب المشوِّش» لكن ليس بدرجة كبيرة. يصور هذا الفيديو لحظة فرار الشرطة. كان فيديو جميل وكلاسيكي نوعًا ما.

هو مشهد نعرفه جيدًا، لكن ربما لا يعرفه آخرون بالطريقة التي نعرفه بها. ما نحتاجه هو طرق جديدة وعيون جديدة للنظر إليه، والإيغال بداخله، واستخلاص أشياء لم نرها بعد، لأننا قضينا ثلاث سنوات نولِّف أشياءً، وثلاث سنوات أخرى لفهرستها.

«كريبتون»: وجدنا فيديو لمتظاهرين سيطروا على ناقلات الأمن المركزي وفرغوا عجلاتها من الهواء. وما كان مثيرًا للاهتمام، أنهم لم يحاولوا أخذ الناقلات واستخدامها، فقط قاموا بتعطيلها.

«كاربون»: كأنه مجاز للحدث كله.

«كريبتون»: بالضبط. نحن لا نريد الاستيلاء على السلطة، نريد فقط تحطيمها. لكن هل هذا الأمر مثير لاهتمام الناس؟ هل ننشر مقطع فيديو لأناس يفرغون إطارًا وفقط؟ لدينا تحدي وهو كيف نُبقي الناس متفاعلين، لأنه إن بقت صفحتنا ميتة فستذوى. ولا أظننا نعرف كيف نفعل ذلك حتى الآن.

 

لينا: تحدثت عن ردود الفعل الإيجابية. من هو جمهور الأرشيف حتى الآن، إن كان باستطاعتك تحديد ذلك؟

 

«كاربون»: إحصائيًا تأتي القاهرة في المرتبة الأولى بنسبة 80% من المشاهدات. ثم تأتي الخمس مدن الأعلى وهم برلين والكويت والإسكندرية والرياض.

«كريبتون»: بعض منظمات حقوق الإنسان ترغب في عمل تقارير حول نوع الأسلحة المستخدمة. وهناك اهتمام من أكاديميين ومن جامعات مختلفة. الأمر المثير بالنسبة لنا، هو أن رد الفعل الأكبر جاء من أناس شاركوا في الثورة يشكروننا على إتاحة المادة.


ملف خاص | مصر: الثورة والثورة المضادة


«كاربون»: من السهل نسيان أن هذا الحدث مر عليه سبع سنوات، كان هناك أشخاص في الثالثة عشر من عمرهم مثلًا حينها. هؤلاء هم الجمهور الأكثر إثارة للحماس. مرت سبعة أعوام، قضيتُ آخر أربعة منها في هذا المشروع الذي يتعلق بذاكرة الثلاثة الأولى، بين الأرشيف وكتابي. أحد الأسئلة هو متى تتوقف عن العمل على الماضي وتبدأ في العمل للمستقبل؟ ولكن أيضًا كل شيء  يتعلّق بالماضي، أو بذاكرتك عنه يجعلك ما أنتَ عليه الآن، وإن تملّصت منه فأنت مصنوع من العدم.  إذا لم تفكر في الماضي، يستحيل أن تحسب تأثيره، أو حتى تأثير ضرر غيابه.

 

لينا: كيف ترى إدارة الموقع على الإنترنت، بالأخص فيما يتعلق بدرجة السيطرة التي تمتلكونها على المجموعة؟ كيف تتوقع أن يكون دورك؟ وكيف تتخيل هذه المساحة التي تحتلها على الإنترنت ما بين كونها بحرًا من المحتوى، وبين كونه محتوى مختار ومنسّق بعناية في نفس الوقت؟

 

«كاربون»: هذا السؤال صعب، لأنه يتعلق بالمقدرة أيضًا. سيكون هناك تنسيق خفيف لأنك لا تريد لهذا الأرشيف أن يكون «يوتيوب مقاطع الفيديو التي صورت في مصر من 2011 حتى الآن». في النهاية هو يدعى أرشيف ثوري، لذلك يجب أن يكون له منحى سياسي. لا أعتقد أنه يجب أن يتماشى مع سرديتنا لما حدث، لكن في الوقت ذاته لا أعتقد أننا نريد أن نيسِّر الأمر لسردية الثورة المضادة.

«كريبتون»: لو فتحنا الباب كليًا، وبدأ الناس في وضع مقاطع مصورة من أحداث 30 يونيو، وأشياء من هذا القبيل ستكون مشكلة. هناك مستوى من المنطق حتمي في جسم هذا العمل. إنها ساحة خطرة، لأنك حينها ستكون من يقرر ما هو ثوري وما هو ليس ثوري، ولكن أعتقد بوجود نوع من الحس العام بخصوص الأمر.

«كاربون»: بالتأكيد الأمر مشابه للقرارات التي تتخذونها في مدى بالنسبة للمقالات، أيها ستكلفون كُتابًا بها، وأيها ستنشرون وما إلى ذلك.

 

ليلى: تعقيبًا على ذلك، ما يشغلني بشكل ما: في المستقبل، هل ستكون هناك لجنة، مهمتها اختيار مقاطع الفيديو التي يشاركها الناس معكم، فضلًا عن تنسيقها؟

 

«كاربون»: في المستقبل لابد لنا من إرساء قواعد إرشادية عاملة لما نبحث عنه. لا نريد أن يرفع الناس مقاطع فيديو لقطط مصورة في 28 يناير. غالبًا ستكون الطريقة التي سيعمل بها الأمر، هو أن ننظم جلسة مرتين سنويًا، حيث يمكننا استضافة 10 أو 20 ممن يريدون المساهمة بمقاطع مصورة. نكون معًا في مكان ما نقضي به يومين، يفرجوننا فيهما على مقاطعهم، ونتحدث فيهما عن الأرشيف، وما نريده منه وما يمكنهم الإضافة له. نأمل أن يساعدنا كوننا في المكان نفسه على الوصول لفهم حول ما نفعل. لكن لا أعتقد أننا سنصل لنقطة نفتح فيها إمكانية رفع مقاطع الفيديو على مصراعيها. أعتقد أن العملية ستظل مقيدة بالتواجد في فضاء مادي مشترك من نوع ما، حيث يمكن أن نحظى بهذا النوع من الحوارات مع الناس. هذا سيجعل العملية أبطأ وأصعب وأكثر استهلاكًا للوقت.

 

لينا: وماذا عن فكرة أن الأرشيف يعتبر بمعنى من المعاني «موقع بناء»، ليس فقط بمعنى أنه يولد المزيد من الأراشيف، وإنما توظيفه في ممارسات أخرى، فنية مثلًا تتعلّق بأنشطتكم كصناع أفلام؟

 

«بلوتونيوم»: في الواقع نحن نستخدم الأرشيف في المشروع الذي أعمل عليه منذ فترة. هو فيلم تحدث قصته في الزمن الحقيقي في نهاية 2011، لذلك كان الأرشيف أساسيًا في تجميع أجزاء القصة التي نحاول أن نحكيها. لدي صلة مباشرة به. أعتقد أن بدونه، بدون ما يفتحه أمامي، لم أكن لأستطيع حكي تلك اللحظات الصغيرة التي نلتقطها. أعتقد أن خلال الأعوام القليلة الماضية كنا، في أذهاننا، نولف ما حدث بكثافة، ولذلك فنحن ننسى قوة لحظات بعينها.

«كاربون»:  أعتقد أني توقفت عن أن أكون صانع أفلام بشكل ما منذ بدأت العمل على الأرشيف. غالبًا آخر شيء قمت بعمله فيما يتعلق بالأمور البصرية كان العمل عليه. قضيت الكثير من الوقت في صيف 2014 أنظم المقاطع المصورة من خيمة الميديا من 25 يناير وحتى 28 يناير 2011، وانتهيت إلى التوقف عن العمل في الأفلام كليًا وبدأت في كتابة كتاب بالمقابل. أصبح هذا هو الوسيط المسيطر علي حاليًا. عظم الأرشيف وأثره وكل القضايا المختلفة التي تأتي من العمل على تلك المواد البصرية؛ دفعتني بعيدًا عنها، بشكل ما، وباتجاه الكتابة التي أجدها أكثر انفتاحًا وقابلية للتحكم.

«كريبتون»: هناك العديد من الأشياء التي يمكن فعلها بالأرشيف والتي لم نفكر بها. أحدها، وبما أني أحد الذين يراسلون لوسائل الإعلام في الولايات المتحدة، هو تقويض تلك السردية التي سادت في تلك الفترة، والتي تقول أن المصريين لا يفهمون أو يعرفون كيفية ممارسة السياسة، الأمر الذي تجلى مثلًا في غلاف مجلة التايم «مصر: أفضل متظاهري العالم، أسوأ ديموقراطيّ العالم». تقول السردية بإنه لم يكن هناك أي نقاشات سياسية حقيقية في 2011 و2012 فقط مظاهرات وتحريك للجموع. نعم هناك الكثير من التظاهر والعنف في الأرشيف، لكن هناك أيضًا أنواع مختلفة من الناس مشتبكون في سياسة راديكالية تهدف لحيازة الإرادة السياسية والاقتصادية. في فيديوهات كثيرة نشاهد ناس من أطياف مختلفة، ومن أماكن مختلفة في البلاد يخوضون مثل هذه النقاشات، وبالنسبة لي لم يمثَّل ذلك إلا بطرق محدودة جدًا في الميديا الغربية. هناك أمل ربما أن يظهر فيلم، أو شكل من أشكال التمثيل لهذا الأمر، لأن هذه السردية تتحدث بفهم عريض لماهية السياسة.

 

ندى نبيل: أنا مهتمة جدًا بالشهادات التي وثقتم إياها وجعلتوها متاحة على الأرشيف. مثلًا الشهادات عن انتفاضة الخبز 1977. كنت أتساءل، بما أن هناك تضييق على التصوير في الشارع في الوقت الحالي، هل تنوون إنتاج مزيد من المحتوى من هذا النوع؟ فبالطبع، لم يعد ممكنًا أرشفة الأحداث حاليًا كما كان يحدث مسبقًا، لكن استدعاء أحداث الماضي بأثر رجعي مازال ممكنًا.

 

«كاربون»: سيكون مذهلًا بناء أرشيف مضاد لكل الأرشيفات التي لا يريدون لنا الوصول إليها، والحديث لأناس من الستينيات أو السبعينيات أو الثمانينيات ريثما هم هنا. هذا سؤال يتوقف على طاقتنا ومقدرتنا، لكن بالتأكيد إذا اشتغل أحد على مشروع من هذا النوع، سنكون مهتمين جدًا بالتعاون معه.

 

ليلى: في مقابلة حول فيلم «بره في الشارع» قالت ياسمينا متولي إنها عادة ما تراودها شكوك حول ما إذا كانت عملية توثيق الثورة وأرشفتها أثناء حدوثها، أمرًا في صالحها؟ في الإطار ذاته هناك عادةً نقاش حول أن وضع شيء في الأرشيف هو بمثابة إعلان لموته، كأن هناك أمر استنفد غرضه، والآن نعرضه في متحف، كيف يمكن مناهضة تحول الأرشيف إلى «متحف»؟

 

«كاربون»: يجب أن نحصل على أشياء جديدة، أن نسجل أشياء مع أناس من السبعينيات ونضيف إليها أشياء من الآن. بهذه الطريقة سيكون لدينا لحظة إعادة تحريك صافية، سيمكننا إنعاش الأرشيف، وسيتوقف عن كونه متحفًا، ليصبح بالأحرى كائن حي ينمو. أو بالإمكان أن نأخذ أشياء ونعيد توزيعها ونصنع بها أشياء جديدة.

«كريبتون» : أعتقد أنه من المهم أيضًا أن ندرك أننا في لحظة مختلفة. المقاومة بهذا الشكل والتصوير بهذا الشكل لم يعودا ممكنين بالطريقة ذاتها. لا أتعامل مع الأرشيف على أنه متحف، إنه أمر حي للغاية، ومن المهم جدًا للناس أن يتذكروا أنه حدث بالطريقة التي حدث بها.

«كاربون»: هذا جزء من التحدي. أحد الأشياء التي أعاني معها في الصور ومقاطع الفيديو، هو وطأة إدراك واستيعاب نهاية هذا الجزء من الثورة، و اضطرارنا المضي في فصل جديد من حياتنا. تصوري عما حدث، هو أن ثورات 2011 هي «حدث تاريخي» كان مثل قطيعة من نوع ما مع الماضي، وحتى الآن لا نعلم إلى أين نحن ذاهبون.

هذا ليس أمرًا بدأ وانتهى، وانتهينا منه، وعدنا إلى ما كانت عليه الأمور سابقًا. كل شيء يتحرك قدمًا، التاريخ يتحرك قدمًا. السؤال الآن هو كيف نفكر في واقعنا فيما يتعلق بيومنا فصاعدًا. وبالنسبة لي فأحد الأمور المفتاحية هو كيف نفكر خارج نطاق شعوبنا. الثورة عظيمة بكل الطرق الممكنة، لكن يتم حصرها بفكرة القومية. كان هناك حتمًا الكثير من الخطابات العالمية، وكانت هناك خطابات إقليمية، ومن الواضح أن للربيع العربي سجله الإقليمي. لكن إن كنا سنتغلب على الرأسمالية أو الاستعمار، فيجب علينا التفكير بشكل إقليمي وعالمي، مخاطبين ومكافحين مشاكلنا. وهذه أحد الإشكاليات عند التعامل مع الصور، لأنها مقيدة بمكان محدد. لكن ربما هذا هو السؤال الذي يمكن للأرشيف التفكير فيه مستقبلًا. كيف نجعل إسهامات الصور في الأرشيف تعكس تعقيد بنية السلطة العالمية التي يهمها إبقاء الأمور كما هي.

«بلوتونيوم»: يراودني شعور بأن لو وضعنا كل شيء على الإنترنت في 2011 و2012، فلم يكن ليشعر أحد بذلك التأثير. لا أعتقد فعليًا بأن نشرها على الإنترنت هو نوع من التسليم، وبأن هذه هي «النهاية». لا أرى الأمر هكذا. لكن أستطيع فهم كيف يمكن  للحظتنا هذه أن تفرض الشعور بذلك. بالنسبة لي فإن وضع الأرشيف على الإنترنت يعني فعليًا، تنشيط الصور والذاكرة بدلًا من كونها خاملة. لا أعرف كيف سيتم استخدامهم أو ماذا سيحدث لهم. لكن أعتقد أن هناك الكثير الذي يمكن تعلمه منه. هناك مساحة لتطوير نقاشات أكثر ثراءً، وعلى غير مثال المتحف،  فباستطاعتك الوصول إليها حقًا.

«كاربون»: كل شيء يغذي دورة النوستالجيا. هذا أمر خارج سيطرتنا. هو سؤال عن الكيفية التي سيشتبك بها الجمهور الأوسع مع الأرشيف.

 

لينا: هل نشر الأرشيف الآن فعل يهدف للخلاص؟

 

«كاربون»: كل ما يمكنك فعله بملف فيديو من 2011 هو نشره على أمل أن يقوم شخص ما بعمل مونتاج له، أو أن يعيد توزيعه أحد ما، أو يشاهده أحدهم، وتأتيه بفكرة جديدة بسبب مشاهدته. كحارس لهذه المادة أعتقد أنها يجب أن تصبح عامة، الأمر بهذه البساطة. أجد كلمة «الخلاص» غريبة ولا أعرف كيف أستخدمها.

«بلوتونيوم»: كشخص يحاول النظر عبر الأرشيف ليأخذ منه أشياء ليولفها، عادة أشعر بالإحباط من وجوب أن أترك الأشياء كما هي، وذلك حتى يتسنى للمشاهد الحصول على كل متع وآلام مشاهدة تلك الحرب غير موّلفة (مُمنتجة). ولذلك أعتقد أن الأرشيف ممارسةقوةـ وليس  ممارسة انهزام على الإطلاق.

«كاربون»: كنا مأخوذين قليلًا بقوة رد الفعل، والتي تنبئ بتعطش الجميع لوجود ذاكرة محفوظة. هذه الأشياء ليست حكرًا علينا كما علمنا دائمًا، و كما حاولنا التصرف انطلاقًا هذا الأساس.

«كريبتون»: أعتقد أن استراتيجيتنا القديمة، والتي كنا بمقتضاها نضع مقاطع فيديو لـ «مصرين» بعد عمل مونتاج لها، وشهادات، لم تعد صالحة. الدولة لا تهتم والناس لا يهتمون. لذلك أعتقد أن هذا مختلف. لا نعلم مدى نجاعة هذا الأمر أو كيف سيستخدم. إنه شكل مختلف من تقديم شيء أطول وأبطأ في مداه. سيأخذ الأمر وقتًا لتصفح الأرشيف، والوقت هو ما تمتلكه الدولة. لذلك فهو يمثل سلاح لمحاربة الدولة على ملعبها.

«كاربون»: إنه الشكل الوحيد الذي يمكنك فيه تصوير الثورة بدقة، لأن لا مؤلف لها، ولأنها غير خطية وليست سردية واحدة. هي ذات أصوات عديدة وفوضوية ،وهناك مئات الكاميرات المختلفة في أوقات مختلفة، بالتالي لا تكون شيئًا يمكن اعتباره قصة من ألف إلى ياء.  بشكل ما، هي أكثر صيغة توازي ما بدت عليه الثورة ذاتها.

 

ليلى: لكن كيف تفلتون من حالة النظر إلى الذات؟ في التحرير أخذنا صورًا لأنفسنا، ثم أخذنا نتفرج على هذه الصور، بل جلسنا في تجمعات لنشاهد أنفسنا مرة ومرات. هذا السؤال ليس لكم فقط، وإنما بالأحرى هو سؤال عام: كيف نودع حالة الفرجة هذه التي ظهرت أثناء الثورة، وبخاصة أن أغلب الأحداث كانت مصورة ومسجلة في مقاطع فيديو، وكانت فكرة التصوير، واستعراض الصور مركزية فيه. كيف يخلِق النظر إلى أنفسنا مسافة من القيام بالفعل ذاته؟

 

«كاربون»: هذا سؤال جوهري. هناك مخاطرة بأن كل ما تفعل فيما يتعلق بالذاكرة يزيد التعلُّق بالماضي. لكن في الوقت ذاته، فإن لدينا ظروفًا خاصة: لدينا هذا الشيء وتقع علينا مسؤولية بنائه. وعندنا سؤال كيف نقدمه، وكيف نكون ذوي نظرة مستشرِفة للآتي قليلًا. نحن جميعًا غير مهتمون بأن نصبح جزءًا من صناعة النوستالجيا، ولكن مهتمون بجعل الماضي ذخرًا، بدلاً من أن يكون عبئًا.

 

ياسمين زهدي: هل تناقشتم في أن فكرة الأرشيف قد تكون قمعية في حد ذاتها، كيف أنه عند نقطة معينة يصبح الأرشيف هو «الحدث» ولا شيء أبعد من ذلك. في ظنك متى يفرض الأرشيف سردية معينة؟ وكيف تتفادون حدوث ذلك؟ خاصة عند الوضع في الاعتبار أن الكاميرا، كأداة توثيق وتسجيل، محدودة في النهاية.

 

«كاربون»: أعتقد أن عليك التفكير في عكس ذلك: ألا يكون هناك أرشيف من الأساس. فلو لم يكن هناك أرشيف، هل ستكون لدينا نسخة من الماضي أكثر ثراءً وانفتاحًا وتنوعًا عن نسختنا الآن لدينا؟ لو كانت الإجابة بنعم فلدينا مشكلة. لكني أعتقد أن هناك العديد من الأشياء التي تمنعه من التحول إلى سردية غالبة/ مسيطرة. لا أعتقد أن الأرشيف سيحظى بهذا القدر من التأثير بطريقة تجعله مصدرًا للهيمنة والتسلط.

 

ياسمين: لكنك تعلم أن هناك أحداث معينة في الماضي يرمز لها بصورة واحدة؟

 

«كاربون»: أعتقد أن الشكل الذي عليه الأرشيف لن يسمح بذلك، لأن لديك العديد من الزوايا لكل شيء. نعم، إن أخذت شيئًا أيقونيًا كمعركة قصر النيل هناك تقريبًا 15 زاوية لها. هذه هي أفضل إجابة يمكن لأحدهم تقديمها حول  عدم الرغبة في تقديم صورة مسيطِرَة. بالطبع هناك أشياء غالبة مثل التركيز على القاهرة، وعلى المظاهرات المادية في الشارع. لكن هذه هي  طبيعة المواد المصورة. أنت لن تستطيع الهرب منها كثيرًا. المرئيات سلاح ذو حدين. فمن ناحية لا يوجد شيء أكثر إلحاحًا وقوة وعنفًا من صورة مصحوبة بصوت،  لكن على الناحية الأخرى هذه هي لحظتها الخاصة المجمدة بالكامل.

 

ياسمين: أعتقد أن الفن يأتي من هنا.

 

أحمد منجي: هل نحتاج لأرشيف؟ كل الناس لديهم هواتف محمولة،  وبطريقة ما فكل الناس باستطاعتهم تكوين أرشيفهم البديل. كيف يختلف أرشيفكم عن يوتيوب؟ هل بالإمكان القول بإن الأرشيف مات، لأن، بطريقة ما، لدينا كل هذه الأرشيفات المصغرة المختلفة؟

 

«كاربون»:  بطريقة ما فالأمر أشبه بالقيام بعملية تنسيقية ثقيلة وكاملة. أكثر هذه المواد على يوتيوب. أحد الاختلافات هنا هو الحالة الخام للمواد المصورة. كل ملف فيديو ربما يحوي يوم كامل من المواد التي تم تصويرها، والتي عادة ما يتم التخلص منها. لديك فيديوهات طولها ساعة. هناك فيديو طوله 3 ساعات. أعتقد أن هناك شيء في غاية الأهمية في عدم وجود مونتاج للمواد، ووجودها في حالة خام لن تستطيع العثور عليها على اليوتيوب. هذا هو الفارق المفتاحي في التجربة. هناك العديد من الأشياء المهمة التي كانت لتظل على تليفون أحدهم لبقية حياته. كل ذلك يشد بقية الأجزاء سويًا ليصنع كيانًا أكبر، يمكن اختباره من أوجه متعددة ، وباستطاعتك، كمشاهد أن تشق فيه طريقك الخاص، الأمر الذي لا تحظى به كثيرًا على يوتيوب لأنك محاط ببحر من كل شيء آخر. أعتقد أن ذلك ما يمنح الأرشيف شخصيته.

«بلوتونيوم»: عندما تقلب بين المواد، وتحاول اتخاذ بعض القرارات، عادة سيقع خيارك على الأوضح، وما يحدث في أقل وقت، حتى وإن كنت تريد صنع شيء طويل أو شاعري. لكنني أحيانًا أشعر بالحزن أنه لا يمكنك تضمين لقطاتك بلحظات معينة، كأن ينسى أحدهم كاميرته مثبتة على شيء ما لمدة عشرين ثانية كاملة، أثناء قيامه بعملية التصوير، وغيرها من التفاصيل الصغيرة والدالة في نفس الوقت.

«كاربون»: لا توجد قصة خطية. لا بداية ولا نهاية. لا بطل. هناك فوضى من الصور. وهي أقرب لمرآة لتجربة الثورة الفعلية، وتلك الأشياء التي جعلت الثورة ثورة: ألف شيء مختلف يتدافع في نفس اللحظة، وفي ذات الاتجاه، ولكن كل منهم مستقل. هي ليست قصة. هي شيء ذو ألف خط يجتمعون في لحظة واحدة.


وسوم: مدى مصر