في افتقاد "فؤادة"

عن فؤادة الشخصية الملهمة التي أدتها الفنانة الراحلة شادية، وتصديها لعتريس دفاعاً عن قريتها: الفطرة التي تنحاز للحريّة وللحق وتجهر بهما، دون أن تنتكس بالتجبّر أو بالذلّ.. فيلم "شيء من الخوف".

2017-12-12

منى علي علاّم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
فؤادة في مشهد من الفيلم

من غير الممكن حصر فنان في دور واحد أو شخصية واحدة قام بأدائها، لاسيما ونحن أمام تجربة فنية طويلة وثرية كتجربة الراحلة شادية، ولكن يبقى لكل فنان علامات في مشواره يُذكَر بها دائما وتعد الأكثر تأثيراً في وجدان الجمهور. ومن أبرز علامات مشوار شادية السينمائي دورها في فيلم "شيء من الخوف" (1969) حيث أدت شخصية "فؤادة"، الفتاة التي وقفت في وجه "عتريس" (محمود مرسي) من أجل أبناء قريتها "الدهاشنة"، فاتحة الهويس (وهو الحاجز على مجرى مائي) الذي أغلقه، وأول من أطلق في وجهه "باطل"، الكلمة التي قيلت في غرفة مغلقة فقُدّر لها أن تصل إلى الجميع وتحرّك الجموع وتُشعل ثورة، فتصنع "فؤادة" نهاية المتسلط على رقاب الناس ومقدّراتهم، وهو كان الحبيب، وهذا هو الأصعب في الوقت ذاته.

كانت "فؤادة" منذ طفولتها قويّة بقدر ما كانت حنوناً، تواسي "عتريس" الحفيد حينما يعنّفه جده الذي لا يطيق أن يرى وريثه طيباً رقيقاً بل يريده مثله شديداً قاسياً على الناس.
وبينما يطأطئ رجال القرية المتراصّون كالخُشُب في سرادق عزاء أحد ضحايا "عتريس" الجّد، يهدد أخو القتيل ليدفع الإتاوة وإلا لقي المصير نفسه، فيلعن الرجل الكفر (القرية) الميّت المتخاذل ويعتبره الجد كَفراً عاقلاً وحكيماً: "شيء من الخوف ما يؤذيش". كانت فؤادة الطفلة في المشهد التالي تقف بثبات أمام الجد القادم مع أفراد عصابته على أحصنة، وقفت أمامه وحيدة وجهاً لوجه بعد أن فرّ رفاقها الذين كانوا يلهون معها في المولد، لتعلن له أنها لا تخاف، بل تؤنبه على قسوته على "عتريس" الحفيد.
كانت "فؤادة" الشابة صاحبة موقف وفلسفة، متمردة على واقع أهل القرية الصامتين الخانعين أمام ظلم "عتريس" الكبير وتجبّره، الذي يعيث في قريتهم فساداً ويفرض الإتاوات الباهظة فيدفعونها صاغرين كي لا ينالوا جزاء من رفض الامتثال فقُتِل أو قتلت ماشيته أو أحرقت أرضه أو داره. "يستاهلوا ما دام محدش قادر يقول لا، هايفضلوا يخافوا كده على طول.. لو أبويا قالها يا أمّة كل الناس هاتقول وراه". "يعني لازم أبوكِ هو اللي يبتدي؟". "أنا مش عارفة، لكن اللي عارفاه إن لازم فيه واحد هايبتدي". وكانت "فؤادة" هي هذا الواحد.


اقرأ أيضاً: المرأة في السّينما المغربية.. ضحيّة أم كيسُ ملاكمة


لم ترث خنوع الأب وخوفه الذي يبرره بحماية نفسه وأهله ممن لا يقدَر أحد على الوقوف أمام بطشه، ولا قَدَريّة الأم التي تظل تشكو إلى الله قبل أن تحركها عاطفة الأمومة لإنقاذ ابنتها من "عتريس" فيما بعد، ولا اتخذت موقفاً سلبياً مستسلما كما فعلت قريتها، بل كانت على الفطرة التي تنحاز للحرية وللحق وتجهر به، دون أن تنتكس بالتجبّر أو بالذلّ.
وهي صاحبة مبدأ، فقد أحبت عتريس طفلاً وشاباً، وكانت تحذره من أن يسلك مسلك جده في التعامل مع أهل القرية "أوعى يا عتريس.. أوعى الدم.. بيني وبينك القلب الأبيض لو غبّرته بدخان رصاصك صورتنا تتقطع وكل واحد منا يترمى في طريق"، وظلت تحبه بعد أن نكث وعده لها عقب مقتل جده وهو يفتديه من رصاص استهدفه من قِبَل أحد رجال القرية انتقاماً مما تقوم به العصابة، على أمل أن يتغير ويعود إلى سابق عهده معها، ولكن كان للمبدأ وحق الناس لديها، الأولوية.

 

مشهد الهويس

 

من المشاهد الرئيسية في الفيلم ومن أكثر مشاهد السينما المصرية شهرة وإلهاماً مشهد فتح "فؤادة" للهويس، فحين يقرر عتريس الذي ورث زعامة العصابة بعد مصرع جده وورث مسلكه وجبروته، إغلاق الهويس عقاباً جماعياً للقرية على قتل أحد رجاله، وهو حادث انتقامي لم يُعرَف فاعلوه، يجلس أهل القرية، رجالاً ونساء، واجمين بلا حول ولا قوة، وكأنهم بانتظار الموت، موت أطفالهم وزرعهم وموتهم من بعد، وتكون "فؤادة" الوحيدة التي تبادر وتتقدم لفتح الهويس، فيُغاث الناس ويُسقوَن، ويفرحون ويحمد الرجال الله وتزغرد النساء، وتفرح "فؤادة" لفرحهم، ولرجوع الحياة إلى أجساد جفّت وأرضٍ تطلب الغوث.

 

"فؤادة" الشابة صاحبة موقف وفلسفة، متمردة على واقع أهل القرية الصامتين الخانعين أمام ظلم "عتريس" الكبير وتجبّره، وهو الذي يعيث في قريتهم فساداً ويفرض الإتاوات الباهظة فيدفعونها صاغرين كي لا ينالوا جزاء مَن رفض الامتثال فقُتِل أو قتلت ماشيته أو أحرقت أرضه أو داره..

 

لم تكن العلاقة العاطفية التي تجمع "فؤادة" و"عتريس" هي ما شجعها للإقدام وأعطاها الثقة في أن "عتريس" المحب، رغم كل شيء، لن يؤذيها. فشخصية مثل "فؤادة" ما كان يمكن أن تلتزم الصمت في موقف كهذا، أيّاً كانت العواقب التي قد تكلّفها حياتها، فعندما يأتي "عتريس" برجاله ليعاقب من تجرّأ على تحديه، ويصوّب نحوها بندقيته من بعيد، على غير ما كانت تتوقع، ترفع رأسها بشجاعة وتحدٍ بانتظار الرصاصات، ولكنّه ما يلبث أن يتراجع ويعود من حيث أتى هو ورجاله، بعد أن يهزّه ليس فقط حبه لها، بل أيضا ثباتها، وتتنهّد "فؤادة" ليس اطمئناناً بالنجاة بعد خوف من الموت، ولكن لأن "عتريس" ما زال داخله طاقة نور لم تنطفئ تماماً.
ما يحرّكها دائما مصلحة الناس وما ينبغي أن يُفعَل. فعندما يلومها أبوها على ما فعلت لأنها تعرّض بذلك نفسها للخطر، تقول له وكأنها تريد أن تصرخ في أذن كل رجل من رجال القرية "الهويس انقفل والبلد بتموت يا ناس ومفيش ولا راجل اتقدّم".

 

باطل

 

ربما لم تلق عبارة من عبارات الأفلام شهرة وانتشاًرا كما لقيت عبارة "جواز عتريس من فؤادة باطل". وقد بدأت القصة حينما يقرر "عتريس" الزواج من "فؤادة" فيذهب إلى بيت أبيها ليطلب يدها بل ليأمر ويبلِغ بموعد "كتب الكتاب"، فهو "عتريس" الذي لا ردّ لأمره سوى الاستجابة والقبول، وهذا تماماً ما فعله الأب، وكان على "فؤادة" في اليوم الموعود أن توكل أباها كي تبدأ إجراءات العقد ولكنّها ترفض. لم تخلق لنفسها الأعذار والمبررات كما فعل أبوها وصحبه، للتحايل على الموقف، لخفض الرأس كي تمر الأمواج بأمان وتنجو، بل كانت الصورة في عينيها واضحة لا تحتمل التشويش ولا تقبل الجدل أو التحايل والمناورات، كانت "فؤادة" كعادتها حازمة حاسمة.
- وده بيدّنا؟!
- بيدّي آني.
- ده عتريس!
- وعشان كده مش هاتجوزه ومش هاديك التوكيل.
عندما كان معيار الاختيار لدى الأب الخوف وإيثار السلامة، كان معيارها الحق، حقها في رفض الزواج ممن لا ترضى مسلكه وظلمه لأهل قريتها، وحق الناس في الوقوف في صفهم لا في صف المتجبر عليهم.


اقرأ أيضاً: "تونس الثورة".. وماذا عن السينما؟


و"فؤادة" فاعلة لا قائلة وفقط، تدافع عما هي مقتنعة به بالفعل لا بالقول وحده، هي ليست كما قال أحد أصدقاء أبيها الذين أتى بهم في سريّة ليشهدوا على عقد الزواج: "الجراءة دي بس عشان في وسطينا إنما قدامه.. وساعتها يبقى العقد صحيح 24 قيراط"، فعندما تكون بمفردها في منزل "عتريس" الذي انتقلت إليه بعد عقد الزواج (الباطل) تبدو أكثر جرأة وتصميماً، وهي هنا لا تنتصر على الخوف فقط بل على قلبها العاشق أيضاً. فلم تلن أمام محاولات "عتريس" استمالتها بتذكيرها بأيام الطفولة وبعروسة المولد وبالحب القديم الذي ما زال يسكن فؤاده، بل أصرت على موقفها الرافض، فتتحول نعومته إلى غضب:
- "أنا كل بنات البلد تحت رجلي، أنا عتريس"
- "وأنا فؤادة"
ثم يتحول الغضب إلى تهديد بالقتل فلا تأبه لتهديده بل تسخر منه لأن قتلها ببساطة لا يعني انتصاره وتحقيق رغبته في إجبارها على الزواج منه.
ويتوسل إليها أبوها "وافقي يا بنتي الله يهديكِ نجّي روحك ونجينا معاكِ" لكنها ترى النجاة في الرفض، في قول لا، فتتحول إلى رمز يتوحد حوله الناس، بعد أن كانت المقاومة والانتقام حالات فردية متقطعة إن أوجعت فإنها لا تحقق المراد.

 

"يستاهلوا ما دام محدش قادر يقول لا، هايفضلوا يخافوا كده على طول.. لو أبويا قالها يا أمّة كل الناس هاتقول وراه". "يعني لازم أبوكِ هو اللي يبتدي؟". "أنا مش عارفة، لكن اللي عارفاه إن لازم فيه واحد هايبتدي".

 

يقول محمود ابن الشيخ إبراهيم في مجلس من شباب القرية: "فؤادة حكمت على رجولتنا بالموت، تنّ الكفر يقول حاضر حاضر حاضر وعتريس يدوس عليه.. والرجالة تعمل عامية وطرشة لحد فؤادة ما تطلع وتقول لا" – أكبر (لأ) اتقالت في الدهاشنة – هانعمل إيه؟ "اشمعنى هي عملت؟! اشمعنى هي ما سألتش راحت عملت على طول؟!.. الناس مش قليلة لا في العدد ولا في القوة، الكره اللي جواهم يزلزل بلد مش عصابة معاها كام بندقية".
ويمثل الشيخ إبراهيم (يحيى شاهين) هو الآخر جانب الرفض والتمرد، وهو الذي يحرّض أهل القرية على عدم السكوت إزاء اختطاف عتريس لفؤادة الذي يمثل اعتداء على "حق الله"، لأن فؤادة لم توافق ومن ثم فالعقد باطل. ويظل يرفع صوته في كل مناسبة "الجوازة باطلة"، وفي صلاة الجمعة يعلن للناس "الجبان يبقى من العصابة.. واللي بيسكت بيخلي صوتهم هم يعلو"، فيقرر عتريس الانتقام منه بقتل ابنه محمود ليلة عرسه، وتسمع فؤادة أوامره لرجاله فتحاول ثنيه وإقناعه أن قتل محمود الذي لا ذنب له لن يفيد شيئاً، وفي الوقت نفسه ترفض الاستسلام وقبول عرضه بأن توافق على الزواج لتنقذ محمود، لأنها بذلك تبيع القضية، وهي تعلم أن قضيتها ليست قضية شخصية بل قضية بلد بأكمله: "بعد المرار اللي ذقيته الدهاشنة أبيع لك نفسي؟! أبيع الدهاشنة؟! لا ده ظلم، مش ممكن.. لو أنا وافقت هاموّتهم كلهم، محدش هايقدر يقف قدامك، كل واحد في البلد محمود.. الدهاشنة كلها هاتعيش". وبالفعل تشتعل الثورة بعد مقتل محمود وتندفع الحشود حاملة جثمان الشهيد وهي تهتف "جواز عتريس من فؤادة باطل"، يقودهم الأب المكلوم والمصرّ في الوقت ذاته الشيخ إبراهيم نحو بيت عتريس الذي ينفض عنه رجاله بعدما يدركون عجزهم عن مواجهة قرية بأكملها، وتنفلت "فؤادة" من بيت "عتريس" لتلتحم بالجموع، بينما يحاصَر "عتريس" في غرفته التي أغلقها عليه أحد رجاله الذين انقلبوا عليه، ويسقط "عتريس" وسط النيران التي يقذفها الأهالي، وهو ينادي على "فؤادة"، وليته استمع إلى نصيحتها بدلاً من نصيحة جده الذي أوصاه بها وهو صغير "لو ما كنتش صقر هاياكلوا لحمك هاينهشوك هايحوطوك زي الديابة أنا عايزك وَحْش".

 

بين الرواية والفيلم

 

تختلف الرواية عن الفيلم في الكثير من التفاصيل والشخصيات. وعلى مستوى شخصية "فؤادة" ثمة كثير من الفروق وإن ظلت الشخصية الصلبة القوية التي ينبع رأيها من رأسها، ولكن الرواية تعطينا خلفية عن الشخصية غير موجودة في الفيلم تتعلق بالجانب التعليمي والثقافي. فقد كانت مصرة على استكمال تعليمها رغماً عن أبيها الذي يريد لها الانقطاع عن المدرسة والجلوس في البيت، كما أنها محبة للقراءة والكتب. والأهم أنها كانت تحب شخصاً آخر هو "طلعت" (شخصية غير موجودة في الفيلم) ابن صديق أبيها، ومن ثم فوقوفها في وجه "عتريس" كان دفاعا عن حبها ورفضا للزواج بهذه الطريقة الإجبارية خاصة أن لها فلسفتها الخاصة في الزواج فهو والحب بالنسبة لها شيء واحد، ودون الحب لا يصحّ زواج، أما "عتريس" فكان يحبها منذ الطفولة وظل زواجه منها أمنيته الكبرى. ولكن قصتها مثلت أيضاً، على الرغم من ذلك، السبب الذي جمّع أهل القرية. أما علاقتها بالناس، فلا تعدو أن تكون "فؤادة" قادرة على الاستماع إلى شكواهم بكلّ نفسها، ولكن دون فعل أو منع، مع حبها للحرية والعدل واتسام شخصيتها بالعناد والإصرار، لكن لا يوجد في الرواية مشهد الهويس بكل ما له من رمزية. "فؤادة" الفيلم أكثر حضوراً وقوة وإلهاماً من "فؤادة" الرواية، وهو رأي يمكن أن ينسحب على الفيلم ككل مقارنة بالرواية. وتنفرد صورة "فؤادة" بملصق الفيلم في بورتريه جانبي وهي تنظر إلى أعلى في تحدٍ وشموخ.
لقد غادرت شادية إلى حيث يغادر الجميع، ولكنها تركت فناً باقياً يلهم الجمهور ويمتعه، وسيرة إنسانة أحبّها الناس. سوف تبقى "فؤادة" مجسدة على الشاشة إذاً، ولكننا سوف نظل نبحث عنها في أنفسنا، وفي ربوعنا.

 

الفيلم قصة ثروت أباظة، سيناريو صبري عزت، حوار صبري عزت وعبد الرحمن الأبنودي، الأغاني عبد الرحمن الأبنوي، الموسيقى بليغ حمدي، إخراج حسين كمال. وقد احتل في استفتاء للنقاد، المركز 19 في قائمة أفضل 100 فيلم خلال مئة عام من تاريخ السينما المصرية.

مقالات من مصر

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...

كيف جرى تكبيل مصر واستعبادها؟

رباب عزام 2024-03-21

يبدو أن السلطة المصرية لن تتوقف نيتها في بيع الأصول والأراضي، ولن تكتفي فقط بما حُسم من صفقات منذ العام 2021، بل ستسعى إلى مزيد من عمليات البيع، تنفيذاً لاشتراطات...

للكاتب نفسه

قصّة "هَدِية" مع الميراث

في زيارتي الأولى في العام 2016 ركّزتُ على التقصير الحكومي ونقص الخدمات الأساسية، وفي الثانية (2021) عملتُ واحتككتُ أكثر بموضوعات تتعلق بثقافة وسلوكيات الناس أنفسهم هناك: ختان الإناث، قتل النساء...

أوضاع صعبة يواجهها الوافدون السودانيون في مصر وعلى حدودها

قالت مفوضية اللاجئين إنه حتى 15حزيران/ يونيو الفائت، تمّ تمويل برنامج الاستجابة السريعة للأزمة السودانية، الذي يشمل مصر وتشاد وإثيوبيا وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، بنسبة 15 في المئة فقط...