وصفة ترييف الشاشة الصغيرة

على الأرض بقايا تبن وفحم وقرون بعد أن اكتسح الريف المدينة في عيد الأضحى. لذا أشاهد الغروب من فوق العمارة حيث غابة من الصحون المقعرة. صحون تقدم يوميا وجبات الصور للمتفرجين الجالسين أمام الشاشة الصغيرة. تنقلهم الصحون إلى عوالم أخرى. ويعودون للشاشة الوطنية في رمضان. ولخدمتهم جيدا، فتحت مغلفات طلبات العروض الخاصة بالدراما الرمضانية 2015 مبكرا (في أيلول/ سبتمبر 2014). فالفلاحون
2014-10-15

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
ماحي بنبين - المغرب


على الأرض بقايا تبن وفحم وقرون بعد أن اكتسح الريف المدينة في عيد الأضحى. لذا أشاهد الغروب من فوق العمارة حيث غابة من الصحون المقعرة. صحون تقدم يوميا وجبات الصور للمتفرجين الجالسين أمام الشاشة الصغيرة. تنقلهم الصحون إلى عوالم أخرى. ويعودون للشاشة الوطنية في رمضان. ولخدمتهم جيدا، فتحت مغلفات طلبات العروض الخاصة بالدراما الرمضانية 2015 مبكرا (في أيلول/ سبتمبر 2014). فالفلاحون يقولون «الحرث بكري بالذهب مشري». وتأتي هذه السرعة غير المسبوقة بعد أن تعرضت كوميديا رمضان الماضي لهجوم شديد. فككل سنة، يهاجم المتحدثون السيتكومات التافهة والهابطة والخاوية، «ضعيفة المستوى».
دفاعا عن أنفسهم، قال المنتجون الذين حصلوا على ملايين الدولارات إن سبب «ضعف المستوى» هو أن مدة التحضير للتصوير لم تكن كافية لهم ليقدموا أعمالا «في المستوى». ومع التبكير هذا العام في دفع النقود للمنتجين، فلن يُقبل عذرهم الأبدي بأن مدة التصوير والمونتاج والميكساج لم تكن كافية.
وفي ظل التباكي على «المستوى»، نشرت أرقام قياس المشاهدة الرمضانية التي تتولاها في المغرب شركة فرنسية. في هذا القياس نُصدّق الأجنبي أكثر مما نصدق المحلي. فقد حققت سلسلتا «زينة في الدوار» و«الكوبل» أرقاما قياسية على الإطلاق منذ بدء القياس الالكتروني لنسب المشاهدة. في المسلسل الأول تعود الشابة كنزة إلى قرية نائية وتجد ذاتها هناك. ونتعرف على صاحب الدكان وصاحب المقهى وعلاقة القرويين بالسلطة... الصفة الأساسية للبدوي هي الخوف من السلطة والخبث والنميمة والجوع والغباء بصدد ما يجري حوله...
أما في «الكوبل» فنتابع ثنائيا فلاحيا بتسمية غربية متحررة، في حوار بحيّل لفظية مضحكة، نسمع بدويا همه الأكل فقط، سيئ النية، عصبي دائما، يتحايل لاسترجاع الصداق لا يريد شراء الأواني... وعن زوجته البدوية الخشنة التي لا تتوقف عن توبيخه. حتى أنه يزعم أنها ماتت فجاءه الجيران بطبق من الكسكس للعزاء.
يكتب حوار الكوميديا المغربية الآن بمعجم فلاحي بدوي (ينتمي لقبائل الشاوية التي دخلت المغرب في هجرة بني هلال، التغريبة العربية الكبرى في القرن الحادي عشر ميلادي)، يفترض أنه يعكس الوعي الجمعي المغربي، لذا فهو ذو صدى. حتى أن الكثير من شركات الإعلان تستخدم جمل المسلسل الكوميدي في إعلاناتها. وقد استخدمت أبطال هذه الكوميديا لتسويق لمنتجاتها. وحين تفعل الشركات هذا فهي لا تقامر بنقودها. تدرك الأثر. تدرك أثر «التمثيل» البدوي على المتفرجين، خاصة وأن ممثلي تلك الكوميديا يكثرون من الضغط على عضلات الجسم والوجه بشكل مفتعل. يتنفسون بصورة متشنجة من دون سبب درامي مقنع. يكررون دور العجوز المتصابي، يتكلفون الرقة المبالغ فيها خلال اللحظات الشاعرية. يبدو أن هذه مرحلة فنية ضرورية في الكوميديا المغربية، وفيها الكثير من سمات مسرحية»تارتوف» لموليير عن فرنسا 1664.
ما هي الدلالات السوسيولوجية للأشكال الفنية التي تستهلك بكثافة؟
رغم هذه العيوب الفنية في الكوميديا، فالتلفزيون المغربي يكرر بثها. وهذه وقائع أصدق إنباء من التصورات، تجعلني أشك في التقييم السائد للإنتاجات الرمضانية. لقد حطمت أرقاما قياسية ومع ذلك تهاجم بحجة «ﺍﻻﺳﺘﺨﻔﺎﻑ ﺑﻤﺴﺘﻮﻯ ﺍﻟﻤﺘﻠﻘﻲ ﺍﻟﻤﻐﺮﺑﻲ».
كيف نقول عن مسلسل انه تافه وقد تابعه أكثر من نصف الشعب؟ لماذا نطالب بالديموقراطية العددية، أي أن يحكم من يحصل على أكبر عدد من الأصوات من الشعب، وندين توجه الشعب لتمجيد الكوميديا التي تطابق وعيه؟
هذا غريب لكنه حقيقة. أين الغرابة؟
ثلثا سكان المغرب يقيمون في المدن بينما التلفزيون يبيعهم شخصيات بدوية، يشترونها ويستمتعون.
التفسير المتفائل هو أنه حنين لعالم زراعي رعوي في طريق الزوال. وهذا الحنين بمثابة وداع.
التفسير الصادم هو أن المتفرج يجد ذاته في الكوميديا الريفية لأنها تطابق خياله. وهي تنقل وجدان المتفرج إلى الأمكنة التي ينتمي إليها. فهو يشتاق للمكان الأول. فمنذ أربعين سنة كان 80 في المئة من المغاربة يسكنون البادية. ثم إن من سكن المدينة عشر سنين لا يصير مدينيا. قد يفقد السلوك البدوي ولكنه لا يكتسب السلوكات المدينية. وهو يشعر بالخجل من أصله البدوي. في شوارع الدار البيضاء تعتبر شتيمة «عروبي» (أعرابي - بدوي) هي الأكثر شيوعا. مؤخرا سمعت شابا يقول لآخر «يا العروبية جعتوا وادلعتوا». أي جعتم فهمتم على وجوهكم في المدن. وعندما تقول شابة لشاب «بدوي» يكون ذلك إهانة مريرة.
تنفيسا عن مثل هذه الإهانة، يسعد المتفرج حين يعرض التلفزيون المدينيين يسخرون من البدو. وهذا يجلب نسبة عالية من المشاهدة. فالمديني حين يضحك من هذه الكوميديا، فإنه في الحقيقة يضحك على أصله الذي تنكر به («العروبي» المغربي هو رديف «الصعيدي» المصري).
لتلك الكوميديا بعدٌ سوسيولوجي عميق إذاً. على هذا الاساس فما يقوله نقاد التلفزيون باطل. لأن ترييف المدينة يسايره ترييف الشاشة. البنية الفوقية تطابق البنية التحتية...
أرقام المشاهدة تأكيد لهذا العمق السوسيولوجي. لذا سيحرص منتجو تلك الوصفة الكوميدية على مزيد من ترييف الشاشة الصغيرة في رمضان 2015. بينما يتوهم المراقبون السطحيون المصابون بالنزعة الثقافوية أن «مستوى» وعي الجمهور أعلى مما يعرضه التلفزيون. وعادة حين يترشح هؤلاء المثقفين في البوادي يحصلون على نتائج مخجلة ويشرعون في شتم الأعيان البدو نصف الأميين. للإشارة، فالوصفة الكوميدية تناسب الأعيان لأنها لا تحرض عليهم أبدا وهي بلا بعد سياسي مباشر بالنسبة للمتفرجين.
الخلاصة هي أن التلفزة تقدم للمغاربة ما يريدون، أي السخرية من الدوار الذي ينحدرون منه. حين يسخرون من العروبية فهم يتباهون بأنهم مدينيّون. فما الذي يجعل نفس الوصفة الكوميدية تستمر؟
حين تولى إدريس البصري وزير الداخلية الأسبق (1974-1999) مهمات وزارة الإعلام (1985-1995) منحت الفرصة لممثلين ناطقين بلهجة قبيلة الوزير (قبائل الشاوية حول الدار البيضاء) لاحتلال الشاشة المغربية. وقد صعّد الوزير كوميديين شبه أميين أدوا دور ابن البلد (ابن الدرب) البسيط حسن النية حتى الغباء. وعمل معهم كتاب سيناريو يرتجلون أكثر مما يحررون ويزيدون من منسوب التهريج... وهذا المستوى يتطلب ممثلين نمطيين وكتاب غير مثقفين.
لا يطيق التلفزيون المثقفين الكبار الذين لا يضعون وعيهم النقدي في قمقم. فالتلفزيون سلاح في يد السلطة ولديه مهارة مخاطبة الأميين وأنصاف الأميين. وتضمن تلك الوصفة الكوميدية للطبقات الشعبية التي لا تقرأ تفاعلا مع ما يجري حولها.
بالنظر لهذه الفوائد، فإنه، وحتى حين غادر الوزير منصبه، فقد بقي ذوقه ورجاله هناك وتابعوا التوجه نفسه. إن الكوميديا المغربية خاضعة «للمستوى» الثقافي لصانعيها، وليس للنظريات الفنية المعروفة، لذا فهي غير قابلة للتصدير... وبما أن الوصفة تعمل، فإن رجال العهد الجديد، لم يتدخلوا. يدركون قول إريك هابسباوم «إن المغالاة في التدخل في الممارسات الشعبية تنطوي على مخاطر سياسية جسيمة». وأرقام قياس المشاهدة دليل على صحة موقفهم. خاصة وأن الوصفة الكوميدية السائدة تسلي ولا تحرض نهائيا. وهذا هو المطلوب.
            
 

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه