المغرب: هكذا يترهل الزمن

ما معنى موعد مع مغربي؟ حين يقولُ لكَ «سأصل حالا: فهو يقصد ربع ساعة. وحين يخبرك «انتظرني دقيقة» فهو يقصد ساعة. أما إن طلب منك أن تصبر قليلا فهو يقصد الوصول بعد ساعتين على الأقل. والخطير هو حين يقول لك إن لديه عملا ينهيه ويحضر فحينها يجب أن تنتظره في الغد. في كل هذه المواعيد يوجد هامش خطأ كبير جدا بين الوقت المقدر، المعلن عنه، والوقت الفعلي. وهامش الخطأ
2014-11-20

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
تصوير: زينب سديرة - المغرب

ما معنى موعد مع مغربي؟

حين يقولُ لكَ «سأصل حالا: فهو يقصد ربع ساعة. وحين يخبرك «انتظرني دقيقة» فهو يقصد ساعة. أما إن طلب منك أن تصبر قليلا فهو يقصد الوصول بعد ساعتين على الأقل. والخطير هو حين يقول لك إن لديه عملا ينهيه ويحضر فحينها يجب أن تنتظره في الغد. في كل هذه المواعيد يوجد هامش خطأ كبير جدا بين الوقت المقدر، المعلن عنه، والوقت الفعلي. وهامش الخطأ الكبير هذا يوجد في مجالات كثيرة، أشهرها أن تعلن الحكومة عن ميزانية ملعب كرة ثم تتضاعف، أو أن تعلن شركة عن موعد تسليم مشروع فيتأخر ستة أشهر مثلا.
وماذا بعد؟
حين يأتي صاحب الموعد يعلن بتواضع أنه سيجلس معك ربع ساعة فيتحدث ويشرب الشاي، وبعد ساعة ينتبه إلى أنه بدأ بمقدمة طللية غير غزلية طويلة، وأنه لم يدخل بعد في الموضوع. إنه يشبه تفكير هند وهي تواعد عمر بن أبي ربيعة: «كلما سألتُ هندا متى ميعادنا؟ ضحكت هند وقالت بعد غد».
هكذا يترهل الزمن. نحن في الخريف، الليل يطول والنهار يقصر. لذا فلدى المغربي فائض من الوقت. آخر مثال عشته جرى في إدارة في حي شعبي جدا في هوامش الدار البيضاء، حيث غاب الموظف ساعة ونصف عن مكتبه. غضب المنتظرون. انتظرتُ ساعتين للمصادقة على نسخة طبق الأصل من وثيقة إدارية تافهة تضمن للشركة الموزعة للكهرباء أن تسترجع العداد من ورثتي. نددت امرأة عصرية بذلك التأخير المهين وقالت أنه في أحياء أخرى من الدار البيضاء تنجز الوثائق نفسها في خمس دقائق. طبعا في الأحياء الراقية الوقت مختلف. هناك صار للوقت قيمة كبيرة، الوقت مال، والموظفون يعرفون مع من يتعاملون، وغالبا يخافون. أما في هذا الحي الفقير فالناس ليسوا مهمين وليست لديهم انشغالات تستحق أن يحضر الموظف بسرعة..
لم أحتجّ على التأخير، لم املك الطاقة لفعل ذلك. لكني كنت مستمتعا بالمراقبة وتسجيل الملاحظات عن الزمن المغربي. أفكر بالزمن في السينما باعتباره خلق إيقاع. المونتاج هو ألا تبدد الزمن. هذا ما يضمن أن يكون إيقاع الأفلام مرتفعا. شخصيا تربيت في بيئة فلاحية. وفي الزمن الفلاحي توجد صلة قوية بين الزمن والنقود. فثمن الماشية يتحدد بعمرها. عمر البغل الجيد ثلاث سنوات. يحدد العمر ثمن البقر. كان الحسن الثاني يشبِّه السياسة بالفلاحة، يقول «في السياسة يجب أن تجني في الوقت المناسب».
لا مكان للزمن الفلاحي في السينما. في المونتاج.
ما هو هذا الزمن؟ مم صنع؟ كيف يسيطر على حياة الناس؟ ما هي الحدود الرئيسية في 24 ساعة؟
توقف الناس عن التفكير في «الساعة» / الآخرة، وهي أمر عظيم وانشغلوا بالتفكير في الساعة = ستين دقيقة. صارت اللحظة تشغلهم. وهذا حال الحكومة، فقد تراجع لديها بعد النظر، يهيمن عليها التفكير على المدى القصير. تحل الدولة مشاكلها الآنية بمزيد من القروض. ينتهي المشكل الآني وتزعم الحكومة أنها نجحت. لكن الزمن سيفضحها. يقول جورج لوكاش في كتابه «نظرية الرواية»: «إن الزمن هو صانع المفارقة اللاذعة العظيم». إنه كشّاف للحقيقة في السياسة والفن. إن الزمن يعري السياسيين وعديمي الموهبة. بالنسبة للمخرج ديفيد كرونيننبرغ في فيلمه «كوسموبوليس»، فالزمن هو فن صناعة النقود. وبالنسبة لأوليفر ستون في فيله «وول ستريت، المال لا ينام أبدا» فإن الأهم في الحياة ليس المال بل الوقت.
بالنسبة لرينيه ديكارت «الزمن مقولة من مقولات الذهن ضرورية لترتيب خبرتنا»، أما عن علاقتنا بالزمن فيعتبر جون بياجيه أن وعي الزمن ليس فطريا لدى الطفل، بل يكتسبه. والطفل يبدأ منذ الصغر في الوعي بالتزامن والتعاقب.. ومع هذا الاكتساب نتعلم في مجتمعنا تبديد الزمن بشكل رهيب.
وقد تأكد ذلك حين نشرت «المندوبية السامية للتخطيط» نتائج بحث وطني حول استعمال الوقت لدى المغاربة منذ 2012 . فقد صنفت الانشغالات اليومية لدى المغاربة للفئة العمرية فوق 15 سنة وقسمت وقتهم على خمس فئات، كما درست حجم الوقت المخصص لكل نشاط من خلال الاشتغال على عينة من 9200 أسرة. وهذه الفئات هي:
أولا، الوقت الفيزيولوجي. يخصص المغربي ما متوسطه نصف وقته تقريبا لجسده، فعشر ساعات و36 دقيقة تذهب للنوم والأكل واللباس وغيره. ينام المغربي ثمان ساعات وعشرين دقيقة يوميا. وعليه فالمغربي الذي يعيش ستين سنة يقضي منها واحدا وعشرين سنة نائما. أكثر من ثلث عمره.
ثانيا، وقت الفراغ أو الوقت الحر المخصص للتلفاز والانترنيت والرياضة والقراءة والصلاة والاستقبالات والزيارات... ويخصص لها المغربي ما متوسطه ست ساعات وأربعين دقيقة، تشمل أربع ساعات ونصف للترفيه وساعة للصلاة. يستهلك التلفاز ما معدله ثلث الوقت الحر لدى المغاربة. هذا معدل يشمل جميع الفئات العمرية. وبما أن الرجل في المغرب يخصص وقتا أكثر لعمله المهني بما قدره أربع أضعاف من المرأة، فيحتمل أن المرأة غير العاملة خارج المنزل تشاهد التلفزة ضعفي المعدل على الأقل.
ثالثا، وقت العمل ومختلف الأنشطة القابلة للتسويق، ويخصص له المغربي كمعدل يومي ثلاث ساعات وعشرون دقيقة.
رابعا، الوقت المخصص للعمل المنزلي من تنظيف وتسوق ورعاية أفراد الأسرة. تخصص المرأة خمس ساعات للأعمال المنزلية ويخصص نصف الرجال أقل من ساعة للعمل المنزلي يوميا، وهو غالبا للتسوق.. أي عمل خارجي. كما يخصص الرجل للعمل المهني أربعة أضعاف ما تخصصه المرأة في المدن وثلاثة أضعاف في البوادي. مع الاسف يعتبر عمل المرأة في المنزل إنتاجا منزليا غير مسوق.
خامسا، الوقت المخصص للتربية والتكوين، أي الدراسة. وهنا الأرقام التي يمكن أن تفسر الكثير. يخصص المغربي نصف ساعة في اليوم لعقله، للدراسة والتكوين. وضمن هذا المعدل وقت الدراسة لدى التلاميذ. ويستخدم المغاربة الانترنيت في 81في المئة من الحالات بغرض الترفيه. وتلاحظ الدراسة أن الأطفال المغاربة يزاولون جل أنشطتهم التكوينية داخل المنزل. ويستنتج التقرير من ذلك أنه يؤدي إلى إعادة إنتاج السلوكيات والعلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع التقليدي.
تدبير الزمن المغربي غير نموذجي. مع الأسف يبدد المغاربة الكثير من الزمن فيما هو غير منتج. لكن ذلك له فائدة، يجعلهم غير متوترين ويرفعون شعار «المتعجلون ماتوا»، وأيضا «من يريد أن يربح فالعام طويل». فالفلاح يعمل بين تشرين الاول/أكتوبر وأيار/مايو، والباقي بطالة. ويبدو أن ساكن المدينة لم يتخلص من التصور الفلاحي للزمن. وأعتقد أن الكثيرين لا زالوا فقراء بسبب تبذيرهم للزمن.

للكاتب نفسه