الملك المغربي يعارض حكومته!

بعد أربعة أشهر من تفكّك الائتلاف الحكومي الذي يقوده الإسلاميون، نسي المغاربة أزمتهم وانشغلوا بمتابعة ما يجري في مصر وتونس. وقد عكس الإعلام غير الرسمي حجم الاهتمام: نشرت الصحف المغربية، ورقية وإلكترونية، مئات المقالات حول شرعية الصناديق وشرعية الشارع ونفوذ الدولة العميقة. وكانت الكتابة عن الشأنين التونسي والمصري حيلة لدى الكثيرين للتعبير بشكل ملتو عما يجري في المغرب، لتمرير موقف بكلفة
2013-09-04

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
(من الانترنت)

بعد أربعة أشهر من تفكّك الائتلاف الحكومي الذي يقوده الإسلاميون، نسي المغاربة أزمتهم وانشغلوا بمتابعة ما يجري في مصر وتونس. وقد عكس الإعلام غير الرسمي حجم الاهتمام: نشرت الصحف المغربية، ورقية وإلكترونية، مئات المقالات حول شرعية الصناديق وشرعية الشارع ونفوذ الدولة العميقة. وكانت الكتابة عن الشأنين التونسي والمصري حيلة لدى الكثيرين للتعبير بشكل ملتو عما يجري في المغرب، لتمرير موقف بكلفة أقل.

السعودية تتعامل مع الملك

في نهاية آب/اغسطس ظهر حصاد الربيع العربي ـ الأمازيغي. انقلب الجيش على الأخوان لإنقاذ الدولة المصرية من الانهيار. في تونس أجرى الرئيس منصف المرزوقي تغيرات في قيادة الجيش لتجنب انقلاب. حينها عاد المغاربة فجأة لتأمُّل المشهد في بلدهم.

في الرباط، يوم 18 آب/ اغسطس الماضي، سار كل ممثلي المعسكر الإسلامي، وقد وحّدهم الخوف من الاستئصال. تناسوا خلافاتهم الدينية والسياسية وخرجوا موحدين (سلفيين وإخوان وعدل وإحسان) للتنديد بالانقلاب في مصر. سار جنباً إلى جنب مرشدا «حركة التوحيد والإصلاح» (الذراع الدعوي لحزب العدالة والتنمية صاحب الحكومة)، الحالي المهندس محمد الحمداوي، والسابق الفقيه أحمد الريسوني، ومرشد جماعة العدل والإحسان الجديد محمد عبادي، وشيخ السلفيين الكتاني... وفي المسيرة نفسها، لكن بعيداً عنهم، سارت زوجة رئيس الوزراء بنكيران، تطالب بطرد السفير المصري.

لن يتحقق مطلب الزوجة لأن وزارة الخارجية وليس وزير الخارجية الإسلامي سعد الدين العثماني أصدرت بياناً مؤيداً للعسكر في مصر بالتزامن مع الموقف السعودي المساند. بينما أصدر حزب العثماني العدالة والتنمية - بياناً رخواً يندد بالانقلاب على الرئيس الشرعي محمد مرسي: للدولة مصالحها العليا وللحزب حساباته.

من جهته هاجم أحمد الريسوني، المرشد السابق لحركة التوحيد والإصلاح، السعودية التي كان مقيماً فيها، على دعمها لسيطرة العسكر على السلطة في مصر. وبهذا ترسّخت قطيعة السعودية مع الإخوان المغاربة. للإشارة، فقد تلقى المغرب في الأشهر الأخيرة خمسة مليارات دولار من دول الخليج التي تتعامل مع الملك وليس مع رئيس وزرائه الإخواني.

تأكيداً لهذا الانفصال، نوّه الملك بحكومته السابقة وشن هجوماً قاسياً على حكومته الحالية. عن الأولى قال في خطاب العرش، في آخر يوم من تموز/ يوليو الفائت: «إنّ حكومتنا الحالية وجدت بين يديها، في المجال الاقتصادي والاجتماعي، إرثاً سليماً وإيجابياً، من العمل البناء والمنجزات الملموسة». ممّا يعني انه يحمل الحكومة الحالية مسؤولية تبديدها ووزر الازمات المعيشية المتفجرة. وهو نفسه، الملك، كان قد أعلن في 2011 عن تعديل الدستور وإنهاء عمر تلك الحكومة «من أجل مستقبل أفضل».

والملك هو المرجع الأوحد

أثار موقف الملك تساؤلات مشروعة: هل حلّ تلك «الحكومة ذات الإنجازات» حسب قوله، بسبب الاحتجاجات التي وقعت في العشرين من شباط/فبراير 2011، أم لأنه أراد حكومة فاشلة وأحزاباً ضعيفة ليبقى هو المرجع؟

وحين هاجم الملك الحكومة الحالية في خطابه بمناسبة ثورة «الملك والشعب»، قال «كان على الحكومة الحالية استثمار التراكمات الإيجابية في قطاع التربية والتكوين، باعتباره ورشا مصيريا، يمتد لعقود عدّة. ذلك أنه من غير المعقول أن تأتي أي حكومة جديدة بمخطط جديد، خلال كل خمس سنوات، متجاهلة البرامج السابقة، علماً أنها لن تستطيع تنفيذ مخططها بأكمله، نظراً لقصر مدة انتدابها. لذا، فإنه لا ينبغي إقحام القطاع التربوي في الإطار السياسي المحض، ولا أن يخضع تدبيره للمزايدات أو الصراعات السياسوية».

هكذا أعلن الملك ثورة على حكومته من باب التذكير بوضع التعليم في المغرب. وسيجد من الآن فصاعداً رئيس الوزراء الإسلامي عبد الإله بنكيران صعوبة بأن يقول لمعارضيه «الملك يساند حكومتي». وهم يشعرون أنهم تلقوا الضوء الأخضر لإسقاط حكومة الإسلاميين، ليس بالضربة القاضية كما فعل قائد الأركان في مصر، بل بالنقاط وبالعرض البطيء. وهذا حلّ جرى التمهيد له مسبقاً بدهاء. فكيف يتم التعامل مع قوة الإخوان المسلمين في المغرب؟

النظام الانتخابي: نسبية حدّ التذرر

في المغرب تم في 2011 اعتماد نظام انتخابي لا يعطي أغلبية لأي حزب. حدّد العتبة في ثلاثة في المئة، فوفر الفرصة لأربعة وثلاثين حزباً للحصول على مقعد. نظام من دورة واحدة يعتمد النسبية، يعطي أهمية عددية لممثلي البوادي لا المدن، فيه الكثير من الدوائر، مما يتسبب في تشتيت الأصوات والمقاعد في البرلمان ليصير هذا الاخير لوحة فسيفسائية. وعلى الرغم من التعديلات الشكلية، فإن خصائص هذا النظام الانتخابي ثابتة منذ 1961. وهو يجعل تشكيل الحكومة رهين ائتلافات ضعيفة.

بعد انتخابات 25-11-2011، تشكلت الحكومة بناء على ائتلاف هجين ضم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وحزب الاستقلال القومي المحافظ، وحزب الحركة الشعبية المقرب من القصر، وحزب التقدم والاشتراكية اليساري. وبعد عام ونصف العام، صادقت الحكومة على قانونها الداخلي التنظيمي الذي يوزع الاختصاصات والمهام بين الوزراء. فاستغل حزب الاستقلال المناسبة ليغادرها. ولا بد من تشكيل ائتلاف جديد، لذلك يتفاوض زعيم العدالة والتنمية مع أعداء الأمس الذين وصفهم ألف مرة بأنهم تماسيح و«فاسدين».

فمنذ الأحداث الدموية في مصر، غادر خصوم الحكومة الإسلامية في المغرب دفيئات الراحة البيولوجية التي اختفوا فيها منذ عام، وزادوا من منسوب هجومهم على الإخوان كجسم سياسي واحد في مصر وتونس والمغرب.
والسيد بنكيران صامت وقد برّد من مزاجه الهجومي، مدركاً أن كثرة الكلام تجر المشاكل. الكلام من فضة والصمت من ذهب. وأن الملحّ هو ترميم الائتلاف الحكومي، ولو بمعانقة كل «الفاسدين» التماسيح. فالمهم هو الاحتفاظ بالكرسي.

مرّ السلوك السياسي لرئيس الحكومة بثلاث مراحل (وفق المحلل اللامع محمد الساسي): مرحلة أولى كان بنكيران فيها هجومياً ومندفعاً، خاصة مع الكشف عن المستفيدين من اقتصاد الريع، ومن رخص النقل، واستغلال مقالع الرمال والحجارة والرخام. في هذه المرحلة قال بنكيران أمام البرلمان إنه مستعد للاستشهاد في سبيل مهمته. مرحلة ثانية اتسمت بالأخذ والرد وقبول الحلول الوسطى، كما في مسألة إصلاح التلفزيون العمومي وتكليف وزير السكن بدل وزير الإعلام بالملف. مرحلة ثالثة دفاعية، فيها بداية انحدار تنتهي بمفترق طرق بين الفشل والثورة.

بالنظر للسلوك السياسي لبنكيران، يتضح أنه لم يعد يتحدث عن الاستشهاد بل هو يدبِّر الأزمة وقد أدرك أن المعارضة لا توجد خارج الحكومة فحسب، بل داخلها. ومهمة هؤلاء هي اسقاط حكومته من دون قطرة دم. يجري تنفيذ ذلك على الشكل التالي: لا يطالب حزب «التجمع الوطني للأحرار» الليبرالي الذي سينضم للائتلاف بحقائب معينة. لا يتفاوض حول الكراسي بل حول التصوّر. وهو يطالب - وقد تحسس الضعف لدى مفاوضيه - بتغيير هيكلة الحكومة.

الأزمة تشتد

وفي حين تمتدّ المفاوضات على الطاولة وتستطيل، يتغير الواقع على الأرض. تتزايد أسعار المواد الأساسية، وتتضاعف خيبة الشعب، وتتزايد الاستدانة. بلغت ديون المغرب 35 مليار دولار منتصف 2013. على فرض أن السكان خمسة وثلاثين مليوناً، فدين كل مواطن ألف دولار. هكذا يتم كشف الإسلاميين على مراحل، ليصيروا منبوذين. النتيجة: «يتراجع أداء القادة حين يقل دعم الناس لهم». ويصعب عليهم اتخاذ إجراءات لإنقاذ صورتهم، مثل إصلاح صندوق المقاصة (أي توزيع 100 دولار للأسرة بدل دعم المواد الأساسية بست مليارات دولار سنوياً، وهو ما نصح به صندوق النقد الدولي). لماذا يصعب عليهم ذلك؟ لأن الإدارات والصلاحيات في النظام السياسي المغربي شديدة التداخل. يصعب على أي مسؤول أن يتخذ قراراً بشكل منفرد. وكل من يحاول ذلك يجد نفسه في مواجهة مع باقي الإدارات والصلاحيات.

وبينما العراقيل تتفاعل، سيكون على الحكومة التفاوض من جديد لصياغة القانون الذاتي التنظيمي، المسكون بتفاصيل وشياطين. ستكون المفاوضات رتيبة، سيلعب الزمن دوره في تبريد المشاكل، وعين المتفاوضين شاخصة على انتخابات 2016. وهنا سيعمل القانون الانتخابي سالف الذكر فعله: مهما كانت نتيجة الانتخابات، فليست الحصة في البرلمان على حجم الحزب في الشارع.

هذه هي الطريقة المغربية لإسقاط حكومة الإخوان المسلمين بالعرض البطيء. على مهل في البرلمان. طريقة بلاط ملكي مستقر منذ مئات السنين، راكم خبرة كبيرة في التعامل مع الصراعات. صاغ استراتيجية الملك، الذي هو السلطة، ولديه تكتيكات لإدارة الحياة السياسية ولتسفيه خصومه، اشتراكيين سابقاً وإسلاميين حالياً، وللتأكيد على أن القيادة الموزعة كارثة بينما تجمّع السلطات في يد الملك نعمة واستقرار للمغرب.

نموذج الاستقرار

يجري تسويق هذا النموذج باستمرار؛ ففي مؤتمر تأسيس المغرب العربي بمراكش 1989، حذر الملك الحسن الثاني الرئيس الجزائري الأسبق الشاذلي بن جديد من الترخيص لحزب إسلامي. رخّص بن جديد لجبهة الإنقاذ التي فازت في الانتخابات بأغلبية ساحقة. تدخل العسكر وأوقفوا المسلسل الديموقراطي، ودخلت الجزائر في العشرية السوداء التي خلفت 150 ألف قتيل على الأقل. لهذا يذكّر المتحدثون عن مصر بالسيناريو الجزائري. وما يمنع تكرار هذا السيناريو في مصر هو الجغرافيا لا السياسة. فطوبوغرافية الجزائر تصلح لحرب أهلية بسبب كثرة المناطق الجبلية والاودية والغابات، كملاذ للمقاتلين. بينما مصر، ذات المساحات الصحراوية الشاسعة المكشوفة للطيران، تصعِّب حرب العصابات. والمكان الوحيد لتجمّع الإسلاميين الجهاديين هو سيناء الشاسعة الخالية...

في المغرب، ولتجنب سيناريوهات الجزائر ومصر، يجري إدماج الحزب الإسلامي في الحياة السياسية الطبيعية. أي كما كانت قبل أن يحترق البوعزيزي. يجري كسر الإسلاميين في مصر بينما يجري تفتيتهم في المغرب. فيتحللون على مراحل وبشكل دستوري. ستفيد هذه المهارة في التدبير في الحفاظ على الاستقرار على المدى القصير. لكنها خطيرة على المدى البعيد، إذ تستنزف كل أمل في التغيير وتجعل الناس يكرهون السياسة ويتعايشون مع الوضع القائم. وضع يزعم المستفيدون منه أنه أفضل الممكن. ومن لم يصدّق، فليقس كمية الدم الذي يسيل في باقي البلدان!

مقالات من المغرب

الناجح: لا أحد

نحتار ونحن نَطّلع على مؤشرات التعليم في المغرب خلال العقدين الأخيرين، بين مستوى المدارس والتعليم حسبَ ما نعاينه فعلياً من جهة، وما تقوله من جهة ثانية الإحصاءات الدّولية حول التعليم،...

للكاتب نفسه