الجوع عار

قبيل الغداء أو العشاء، حين أقف في دكان الحي القريب من الجامعة لشراء شيء، أجد طلبة يشترون أطعمة بالتقسيط الشديد. يضعون في الميزان حبة طماطم، حبة بصل، بعض العجائن، قليل من الزيت في بلاستيك صغير في حجم الكف... وأحيانا يكتفي أحدهم ببيضتين. مشهد ظهرت له أبعاد جديدة حين نشرت منظمة الأغذية والزراعة "فاو"، في بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2012 تقريراً حول "انعدام الأمن الغذائي في
2012-10-31

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك

قبيل الغداء أو العشاء، حين أقف في دكان الحي القريب من الجامعة لشراء شيء، أجد طلبة يشترون أطعمة بالتقسيط الشديد. يضعون في الميزان حبة طماطم، حبة بصل، بعض العجائن، قليل من الزيت في بلاستيك صغير في حجم الكف... وأحيانا يكتفي أحدهم ببيضتين. مشهد ظهرت له أبعاد جديدة حين نشرت منظمة الأغذية والزراعة "فاو"، في بداية تشرين الأول/ أكتوبر 2012 تقريراً حول "انعدام الأمن الغذائي في العالم"، جاء فيه أن حوالي مليونين من المغاربة يعانون الجوع ولا يجدون ما يقتاتون به.
رد الفعل الأول في الرباط هو التكذيب والغضب من ادّعاءات المنظمة. وهذا تقليد مغربي عندما تتناول التقارير الدولية البلد. لكن عندما يكون التقرير إيجابياً فهو يحتل المرتبة الأولى في عناوين النشرة الرئيسية للتلفزيون.
في سنوات مجد اليسار في الحرم الجامعي، كان الطلبة والمثقفون ينفرون من الخوض في المسائل الخبزية. ومنبع هذا النفور هو الافتراض أن هذه المسألة تافهة ومحلولة ولا بد من تجاوزها لتناول مسائل جوهرية راقية. لكن الأمر تغير. في البرلمان، صرح رئيس الوزراء أن مغاربة كثيرين لا يجدون ما يعدّون به الحساء في رمضان. وقد عبر عن إعجابه بصبرهم. وأكد أن حكومته تخطط، حسب مشروع القانون المالي لسنة 2013، لتقديم الدعم لثمانية ملايين فقير: ربع سكان المغرب. وفي أمر ذي صلة، صنفت الـ "فاو" المغرب كأسوأ بلد في محاربة الجوع بشمال أفريقيا.
هذه وقائع لا مكان لها في العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام. فما ان تعبت من الرقص لأن منتخبنا هزم الموزامبيق شر هزيمة، حتى تلقفت خبر تدمير السلفيين لنقوش أثرية عمرها 8000 سنة. طار وزير الاتصال برفقة فريق إعلامي للتأكد من ذلك، فنفى حصول التدمير. فالسلفيون المغاربة يتجنبون المواجهة لأنهم واثقون أنهم سيعودون للسجون في أقرب فرصة. لكن صراع الإسلاميين والعلمانيين عن الطبيعة الافتراضية للدولة لم يخمد. وهو يطغى على الحاجات الحقيقية للناس. لذا فإن الجوع ليس موضوعاً مغرياً ليكون على الصفحات الأولى للجرائد. الجوع يسبب الألم ويحط من الكرامة، والذاكرة تدفعه عميقاً للخلف لتستمتع بالنسيان.
على صفحات المندوبية السامية للتخطيط تتبع مستمر لارتفاع أسعار البيع بالتقسيط. وفي كل فصل تعلن المندوبية ارتفاعاً طفيفاً لأسعار الغذاء واللباس والنقل. عندما تحسب نسبة الارتفاع في السنوات الخمس الأخيرة، تجد أن الزيادات تجاوزت العُشر. وبعض السلع زادت أكثر من 50 في المئة مثل الزبدة الصفراء، ومشكوك أن يكون أصلها الحليب. حتى السردين الذي يباع بالجملة بدرهم في المرسى يصل للمستهلكين في الأحياء الشعبية بأكثر من عشرة أضعاف ثمنه.
في ظل هذا الوضع، يحصل الطلبة المغاربة على منحة كل 90 يوماً، وهي تساوي دولارين في اليوم. وبما أن ثمن كيلو الطماطم قد بلغ دولاراً في بلدنا الفلاحي، فإن الطالب ملزم باستهلاك تسعين كيلو طماطم كل فصل وتخصيص نصف المنحة الآخر لإيجار غرفة مع طالبين أو ثلاثة على الأقل.غرفة تكلف مئة دولار شهرياً.
للاستمرار في العيش، يجري التركيز على وجبات رخيصة، مثل قلي البيض (انتقل استهلاك المغربي من 21 بيضة للفرد سنوياً عام 1970 إلى 120 بيضة للفرد سنة 2011)، وتسخين الخبز اليابس مع الزيت في مقلاة ليصير محمصاً ليسهل مضغه وبلعه مع الشاي. و"الخبز والشاي" هو وجبة الفقراء، وهذه شتيمة. ففي تعليقاتهم الانتقامية على موقع صحيفة الخبر الجزائرية، رداً على هزيمة المنتخب الجزائري أمام نظيره المغربي بـ (4 -0)، بداية حزيران/ يونيو 2011، اتضح أن كلمات "الفقر والحشيش والجوع"، هي التي يُعرف بها الجزائريون "لمراركة" (أي المغاربة).
المغرب ليس فقيراً، مصر أيضاً ليست فقيرة، رغم الزحام في طوابير "العيش". لكن الفوارق في الثروة رهيبة. في الحالة المغربية، ست محافظات من بين 16 التي يتكون منها المغرب تنتج 63.8 في المئة من الناتج الداخلي الخام. 35 ثرياً مغربياً يملكون ما يعادل 12.5في المئة من حجم الميزانية العامة السنوية للمغرب.
حتى السياسة الحكومية تكرس الفوارق. فمثلا يكلف صندوق المقاصة الذي يدعم أسعار المواد الأساسية، ميزانية الدولة 70 مليار درهم. وقد تأكد أن الأغنياء يستفيدون من ثلثي هذا الدعم، لأنهم يستهلكون بنزيناً وغازاً وسكراً ودقيقاً أكثر، بينما الطبقات الفقيرة لا تستفيد إلا من عشر ميزانية الصندوق. وهذا نموذج لما يسمى اللاعدالة الاجتماعية. وقد خصص المغرب600 مليون دولار لاستيراد سيارات في النصف الأول من 2012. وبرغم الجوع في بلدانهم، يستمر الأثرياء العرب في شراء النوادي الأوروبية والعقارات الفاخرة في لندن (حسب تقرير حديث لشركة CBRE المتخصصة في مجال الخدمات العقارية العالمية). ومؤخراً زار ملك المغرب الخليج وحصل على مئات ملايين الدولارات للاستثمار. ولكنها لن توجه لملايين الهكتارات الصالحة للزراعة في المغرب، لن توجه لـ3500 كلم من الشواطئ، لن توجه للإنتاج والمغرب على بعد 14 كلم من سوق الاتحاد الأوروبي. ستخصص ملايين البترودولار لبناء فنادق ومواخير ليأتي الأشقاء للمنتجعات.
وهكذا تتمركز الثروة جغرافياً في مناطق معينة وطبقياً في أيدي قليلة. لذا يتشفى المغاربة في أنسهم بالحديث عن مغرب نافع ومغرب غير نافع. وقد تفشت ظاهرة التسول بشكل رهيب في كل مكان. تجلس في مقهى ويمر عليك عشرة وأكثر. قد يقال أن ليس كل المتسولين فقراء. محتمل! لكن ذلك يدل أن الناس يذلون أنفسهم للحصول على مبالغ صغيرة، وهذا مؤشر أخطر.
التأكيد الوحيد الذي حمله الربيع العربي/الأمازيغي للمغاربة هو أن المستفيدين نجوا من الطوفان. أمام مشهد اللاعدالة الفاحش، يكون المرء مخيراً بين أن يهاجر أو ينتحر. وبما أن برامج التقشف في أوروبا مزلزلة، وبما أنه من الصعب الهجرة بعد سن الأربعين، فكثيرون فضلوا الحل الثاني ملتوياً، أدمنوا الحشيش والخمر والقمار...
في تاريخه، عرف المغرب مجاعات ساحقة سنوات 1776- 1779، 1782، 1867-1869 و1878-1883... ومن نتائج تلك المجاعات ارتفاع أسعار الحبوب وموت الناس والدواب والنزوح نحو المدن والتسول والفناء من شدة الجوع، حتى قدر الناصري (في كتابه "الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى") أن نصف المغاربة ماتوا جوعاً.
لقد غيَّرت هذه الفواجع مسار تاريخ المغرب، وخلفت تلك المجاعات دروساً راسخة في الوعي الجمعي. من باب التحسر، تفتخر جدتي أنها كانت تبيع دجاجة في السوق وتتسوق وتكتفي. الآن لم يعد ثمن الدجاجة يكفي للتسوق. يحن المسنون لما يسمونه زمن الرخاء، يزعمون أن النقود صارت ملعونة لذا لم تعد فيها "بركة".
بسبب التضخم، فقدت النقود فعاليتها. المبلغ الذي كان يملأ قفة خضار صار يملأ ربعها. مع ذلك فالناس الآن متفائلون، لقد تحسنت فكرتهم عن عصرهم، وهم يؤمنون بالتقدم ولا يتوقعون إلا الأفضل، وحتى حين يمرون بمحنة يعتبرونها سحابة صيف ولن تتكرر. ويتعزز هذا التوصيف بكون الذين ينتجونه يعيشون في ظروف مريحة. لكن يبدو أن مع الأزمة التي بدأت تتعمق، والوقائع التي تتواتر، سيراجع الكثيرون صورتهم عن العصر. سيعود التشاؤم ليتسيد التصورات. وكلما أكل الناس أقل سيفكرون أكثر، وسيكتشفون أن تزايد اليأس سيساعدهم على رؤية حقيقة واقعهم المستور بغشاء الأمل.
بعيداً عن الإحصاءات، فإن تناول المتخيل في التراث الشعبي للمستقبل ليس متفائلا. تروي الحكاية أن شخصاً تفاخر أمام الناس قائلا "أكلت وشبعت"، فرد عليه أحدهم: "لا يظهر في حنكك".
الشبع لا يقال، تعكسه الوجوه، والجوع أيضاً تعكسه الوجوه، وهي تكون يابسة تميل للزرقة. حين أتأمل هذا تتجمع الدموع في عيني. فليس هناك عار أقسى من الجوع.
 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه