من كسر الصيام إلى البطنة التي تُذهب الفطنة

هنا في المغرب، توجد خطاطة نمطية للإفطار في رمضان، يتناول الفرد تمرة "لكسر الصيام" - لأن في التمر بركة منذ سقط على مريم وبدأ به الرسول - يصلي ثم يعود فورا لتناول الطعام الثقيل. تتكون مائدة رمضان من حساء يسمى "الحريرة" من كثرة المواد المطبوخة فيه، ومنها اللحم والحمص والعدس والطحين وعشر حبات طماطم وبصلة وكزبرة وبقدونس (معدنوس) وسمن بلدي وزيت وتوابل، تُغلى لمدة ساعتين على الاقل... الحريرة فرض في
2012-08-01

محمد بنعزيز

كاتب وسينمائي من المغرب


شارك
الوعاء التقليدي للطاجن المغربي

هنا في المغرب، توجد خطاطة نمطية للإفطار في رمضان، يتناول الفرد تمرة "لكسر الصيام" - لأن في التمر بركة منذ سقط على مريم وبدأ به الرسول - يصلي ثم يعود فورا لتناول الطعام الثقيل. تتكون مائدة رمضان من حساء يسمى "الحريرة" من كثرة المواد المطبوخة فيه، ومنها اللحم والحمص والعدس والطحين وعشر حبات طماطم وبصلة وكزبرة وبقدونس (معدنوس) وسمن بلدي وزيت وتوابل، تُغلى لمدة ساعتين على الاقل... الحريرة فرض في رمضان وسنة في بقية أشهر السنة. حول "الحريرة" نجد "الشباكية" (عجين فيه لوز مهروس مقلي ومغمس في العسل)، وأيضا "الملوي" وهو ثريد مدهون بالزبدة، والأسر الميسورة تدهنه بالعسل... غالبا يجري تناول هذه الأركان الثلاثة للإفطار دفعة واحدة... الركن الرابع هو السفوف (وهو دقيق محمّر فيه لوز) يُتناول مع الشاي يعد صلاة العشاء. الركن الخامس في أطباق رمضان هو "الطاجين" ويجري تناوله في السحور، وفيه لحم وخضر.
الحريرة والملوي والشباكية والسفوف والطاجين هي الأركان الخمسة لوجبات رمضان، وقد تدخل عليها تعديلات طفيفة مثل طبق الكسكس في ليلة منتصف رمضان وليلة القدر... والكسكس المغربي أشهر من أن يوصف.
يفطر الصائمون وهم ينظرون للتلفزيون لا لبعضهم بعضا. يأكلون إلى أن يصير حجم بطونهم ضعف حجم جماجمهم. يتمددون قليلا، كثيرون ينامون فورا. هذه أركان الوجبة والبقية نوافل. ومن النوافل صحون "العولمة"، وهي تدخل مائدة رمضان بشكل جزئي، خاصة في الأسر الميسورة التي تعد إلى جانب الحريرة الخاصة بكبار السن، "بيتزا" و"بانيني" للشباب، تحبيباً لهم بالصيام، أو قل رشوة. لكن طبخ العولمة يضعُف في رمضان لصالح الطبخ المحلي. وهذه وجبات تحضَّر في المنازل غالبا، حيث تعتبر الكثير من الأسر السفر أو الخروج من البيت وقت الإفطار عيبا. حتى العزّاب يشترون لوازم الإفطار الجاهزة ويأخذونها لبيوتهم.
في رمضان تزداد الأسعار ويزداد المحسنون أيضا، من باب الإيمان أو التباهي. وهكذا تنظم خيام للإفطار الجماعي المجاني، يقصدها الغرباء عن المدينة والمهاجرون جنوب الصحراء. وغالبا ما يعمد رواد هذه الخيام لقصد أماكن لا يتعرف عليهم فيها أحد.
نادرة هي الفروق بين المناطق، لكن الفروق قائمة بين الطبقات الاجتماعية من حيث جودة وثمن ما يوضع على المائدة. طبعا للجودة ثمن، لذا تزيد الأسر من ميزانياتها في رمضان، وهو ما يمكن ملاحظته بالعين المجردة في الأسواق من خلال الزحام وارتفاع الأسعار.
جل الوجبات المغربية فيها دقيق. فالعجائن تسرِّع الشبع بأقل كلفة. لكن مخزون البلد من القمح في تراجع، بينما أسعاره في ارتفاع. ويقول المحللون إن الأسعار العالمية ترتفع وإن الطلب يفوق العرض لأن الصينيين والهنود صاروا أكثر غنى، لذا يستهلكون قمحا وحليبا ولحما أكثر. يتطلع العارفون إلى بورصة القمح في شيكاغو بخوف...
من سوء حظي أني عرفت مبكرا أن الأكل مشكلة. كثيرون لا يكتشفون أن الأكل مهم إلا حين ينفصلون عن أسرهم. ربتني جدتي، وكنا نسكن في غرفة واحدة بالبادية، وكانت تطبخ أمامي باستمرار وتحكي لي. كان الموضوع الرئيسي للحكايات هو الصراع على الأكل، كما في كليلة ودمنة، يفترس الأسد الثيران الثلاثة فرادى وتتغذى الثعالب على الفضلات.
لا تستطيع جدتي الحديث عن الأكل دون الحديث عن ثمنه، وهي تبذل جهدا لتقليص الكلفة. تركز على إعداد النيئ لتجنب إهدار الطاقة في المطبوخ. وفي حالة الضرورة، تعد القليل على الغاز بسرعة، وتعد الوجبات على الحطب في القدر على مهل.
الوجبات المغربية تُطبخ جيدا، وفي هذا وقاية من أمراض رأس الداء: المعدة. طبعا علاقة المغاربة ضعيفة بأطباء الأسنان، وغالبا ما يذهب المغربي للطبيب لقلع الأضراس وتصحيح الأسنان الأمامية فقط، وهو يستطيع العيش بلا أضراس ما دامت لا تظهر للآخرين، لذا يمضغ قليلا.
بعد الوجبات، تستخلص جدتي فوائد الشبع، فمعدة مملوءة تجعل القلب سعيدا، والمغاربة يقولون "عندما تشبع الكرش تقول للرأس غنّ". لا تنسى أن تحذر: "الشبع يسبّب الكسل". والبطنة تذهب الفطنة... لكن ذهاب الفطنة أقل خطرا من الجوع، فالشخص الذي لا يشبع لا يثق بنفسه، تركيزه يقل، يشعر بالدوار وتزيد لديه ضبابية الرؤية، ينصرف اهتمامه لتدبير الطعام بكل الوسائل.

رمضان ولغة الطعام

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...

للكاتب نفسه