حراك قضائي لافت في ليبيا أشعلته مسودة الدستور المثيرة للجدل

مروان الطشاني* بداية شهر أكتوبر 2015، أعلنت لجنة العمل التي انبثقت عن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي عن حصيلة أعمالها.[1] وقد أثار هذا الإعلان ردة فعل كبيرة وسريعة في الوسط القضائي لم يتوقعها أغلب المتابعين ولم يحلم بها أكثر المتفائلين احتجاجا على أحكام باب السلطة القضائية. وكانت بداية هذا الحراك القضائي ارتجالية، لكن معبرة من خلال تنظيم أعضاء الهيئات القضائية للعديد من
2015-11-27

شارك

مروان الطشاني*

بداية شهر أكتوبر 2015، أعلنت لجنة العمل التي انبثقت عن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور الليبي عن حصيلة أعمالها.[1] وقد أثار هذا الإعلان ردة فعل كبيرة وسريعة في الوسط القضائي لم يتوقعها أغلب المتابعين ولم يحلم بها أكثر المتفائلين احتجاجا على أحكام باب السلطة القضائية. وكانت بداية هذا الحراك القضائي ارتجالية، لكن معبرة من خلال تنظيم أعضاء الهيئات القضائية للعديد من الوقفات الاحتجاجية أمام المحاكم والنيابات بدأت بمدينة الزاوية ثم انتقل الحراك إلى مدن بنغازي والبيضاء مصراتة وطرابلس وجادو وسبها.

كما صدرت العديد من البيانات وتمت تغطية كل هذا الحراك عبر القنوات التلفزيونية والإعلام والمواقع الالكترونية المتخصصة في الأخبار. وتزامن مع ذلك حضور مكثف لأعضاء الهيئات القضائية في الإعلام والبرامج الإخبارية للتعبير عن إحتجاجهم وتحفظهم على بعض مواد المسودة ولإيصال صوتهم للهيئة التأسيسية لصياغة الدستور.[2]

وطرق الحراك حتى أبواب المجلس الأعلى للقضاء الذي شكل لجنة أسماها لجنة التواصل مع الهيئة التأسيسية مهمتها التواصل مع هذه الهيئة وتقديم الملاحظات والمقترحات إليها. وعقدت اللجنة لقاء مع أعضاء الهيئة التأسيسية المنتخبين من مدينة طرابلس وهي تسعى للسفر لمقر الهيئة التأسيسية في مدينة البيضاء. وبالتزامن مع هذا الحراك خاطبت المنظمة الليبية للقضاة الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور في 13 أكتوبر للمطالبة تعديل نصوص المواد المثيرة للجدل وهي المواد 97 – 98 – 108 - 206 ومطالبة بفتح قنوات التواصل مع أعضاء الهيئات القضائية وعقد أعضاء من الهيئة الإدارية للمنظمة الليبية للقضاة اجتماعا مع رئيس الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور د. علي الترهوني ومقرر الهيئة رمضان تويجر عرضت فيه ما للمنظمة من تحفظات وملاحظات.[3]

ومن الناحية الفنية تمركزت أغلب الملاحظات على أربع مواد أثارت كثيرا من الجدل: المادة الأولى هي المادة 97 من مسودة الدستور. وقد حددت هذه المادة تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء مقصية من تركيبته بعض الهيئات القضائية وهي إدارة القضايا وإدارة المحاماة العامة وإلادارة العامة للقانون. ولفهم هذا الاعتراض، يجب  أن نعرف خصوصية القضاء في ليبيا التي تبلورت خلال النظام السابق وتوسع المشرع الليبي في إنشاء هيئات قضائية جعل تبعتها للمجلس الأعلى للقضاء. وحتى بعد ثورة 17 فبراير وتغيير النظام  السياسي وصدور إعلان دستوري جديد، لم تتغير طبيعة النظام القضائي. بل أن محاولات الإصلاح القليلة بقيت عاجزة عن المسّ بهذه الطبيعة الخاصة للنظام القضائي في ليبيا والتي أصبحت مع مرور الوقت واقعاً مستقراً وثابتاً. وقد ساعد في تكريس هذا الواقع قانون نظام القضاء رقم 6 لسنة 2006 الذي ساوى بين جميع أعضاء الهيئات القضائية في الحقوق والواجبات والمزايا والحصانة وأجاز النقل بين هذه الهيئات وصار من المعتاد أن تجد قاضياً بدرجة رئيس محكمة ابتدائية قد سبق له التنقل بين أغلب هذه الهيئات أو عضو من إدارة القضايا سبق له العمل في القضاء والنيابة العامة.[4] واللافت في مسودة دستور لجنة العمل تجاهلها لهذه الخصوصية في القضاء الليبي وعدم التعامل معها بتمهل وعمق وروية، مما ترتب عليه إقصاء الهيئات القضائية المذكورة من تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء وإدخال أعضاء من خارج السلطة القضائية كالمحامين وأساتذة الجامعات. وهو ما اعتبره أعضاء الهيئات القضائية إخلالاً بمبدأ الفصل بين السلطات من خلال ما جاء بالمادة (97) والتي أعطت لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية مكنة التدخل في تعيين بعض أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وانتهاكاً لاستقلال القضاء والذي نصت عليه المادة (90) من مسودة دستور لجنة العمل.

وتركيبة المجلس الأعلى للقضاء تبقى مسألة جدلية، لغياب نموذج محدد ومثالي لآلية تشكيل واختيار أعضاء المجالس القضائية يمكن تطبيقه في كل البلدان. فالمسألة مرتبطة بعوامل داخلية، أهمها انعكاس النظام القضائي المتبع في الدولة مع ضرورة تحليل الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة به وهو ما عجزت عن استيعابه لجنة العمل.

ومن ناحية أخرى، منحت مسودة دستور لجنة العمل ضمن فصولها الانتقالية، المجلس الأعلى للقضاء صلاحية معالجة وضع هذه الهيئات وإعادة تنسيب الأصلح للعمل في القضاء وفق الرغبة وتقدير الكفاية مما يعني ضمناً إلغاء هذه الهيئات وتسريح أعضائها أو نقلهم لجهات أخرى. وهو ما اعتبره أعضاء الهيئات القضائية مساسا بحقوقهم المكتسبة ومراكزهم القانونية المستقرة، ناهيك عن غموض وعدم شفافية المعايير المعتمدة لتقرير من هو  الأصلح.

 وحقيقة، من شأن إلغاء الهيئات القضائية الثلاث (إدارة القضايا – المحاماة العامة – الإدارة العامة للقانون) بنص دستوري الإضرار بالمنظومة القضائية باعتبار هذه الهيئات من الروافد المهمة التي تمد القضاء والنيابة العامة بالكفاءات وأصحاب الخبرة. كما أنها تعكس خصوصية القضاء الليبي خاصة إدارة المحاماة العامة الذي يعد إلغاؤها إهداراً لحق المواطنين في الاستفادة من الخدمات المجانية التي تقدمها وصولا للعدالة. وعلى فرض وجود وجهة نظر مناهضة لوجودها، فلا يجوز تبنيها إلا بعد دراسات معمقة وعلى مراحل وبمشاركة أعضاء هذه الإدارة في تحديد مصيرها أو تعديل قانونها. وما يعزز هذا التوجه هو أن عدد المنتسبيين لهذه الإدارة يناهز  1139 عضواً تقريباً من مجموع 3558 عضو في الهيئات القضائية على مستوى الدولة[5]. كما إن إلغاء إدارة القضايا بعدم التنصيص عليها يعد إهداراً لحق الدولة لضمانة حفظ المال العام كونها الجهة المكلفة بالدفاع عن الدولة ومؤسساتها.

ولعل هذا الاحتجاج على إقصاء الهيئات القضائية المذكورة وإلغائها لم يكن من الوسط القضائي فقط بل تضامن معها بعض الأكاديميين. ومن هؤلاء د. الكوني عبودة أستاذ القانون بجامعة طرابلس الذي صرح بأن النظام القضائي الليبي عرف منذ عقود إدارة القضايا والمحاماة العامة وهما يقدمان، على عيوبهما، خدمات لا يمكن إنكارها. وهو يرى وجوب الإبقاء عليهما ولكن في صورة هيئة واحدة منفصلة عن السلطة القضائية مثلها مثل المحاماة الخاصة ،على أن يقوم القانون بتنظيم شؤونهما.

ولم تقتصر الملاحظات والتحفظات على المادتين السابق ذكرهما. فقد اعتبر أعضاء الهيئات القضائية أن هناك تضييقاً غير مبرر في تركيبة محكمة النقض المنصوص عليها في المادة 98 من المسودة عندما اشترطت درجة رئيس محكمة استئناف فيمن يعين بمحكمة النقض، الأمر الذي يحول دون الاستفادة من الأكفاء ممن هم دون  تلك الدرجة من مستشاري محاكم الاستئناف.[6] وواجه هذا الطرح انتقاد د. عبودة لجهة استبدال مصطلح المحكمة العليا بمصطلح محكمة النقض: فوظيفة المحكمة العليا ليست بالضرورة النقض أو الإلغاء وإنما أيضا التأييد الكلي أو الجزئي. 
 
وإضافة لما سبق، رأت المنظمة الليبية للقضاة أن من أبرز عيوب المسودة الرئيسية عدم تضمين المعايير الدولية لاستقلال القضاء والنيابة العامة خاصة عدم التنصيص على حق القضاة في التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات.

ورغم زخم هذا الحراك وتأثيره الكبير والتغطية الإعلامية الكبيرة التي حظى بها، إلا أنه لم يخلُ من بعض السلبيات. فالحراك لم يكن منظما على مستوى البلاد بالكامل. فالوقفات الاحتجاجية جاءت في أيام متفرقة والبيانات صدرت غير موحدة. وذلك يعكس أهمية وجود كيان مستقل جامع لكل أعضاء الهيئات القضائية يعبر عنهم ويدافع عن حقوقهم. ورغم إنشاء المنظمة الليبية للقضاة، إلا أنها لم تنجح في ضم عدد كبير من الهيئات القضائية وبالتالي لم تكن مؤثرة في كل المدن كما حدّت من نشاطها الحالة العامة للبلاد إضافة إلى أنها لا تضم في عضويتها سوى القضاة وأعضاء النيابة العامة فقط.

والجانب السلبي أيضا في هذا الحراك هو صمت المستشارين في محاكم الاستئناف والمحكمة العليا وعدم اتخاذهم لأي موقف ايجابي لدعم هذا الحراك. وهذا يعكس الهوة الكبيرة بينهم وبين أعضاء الهيئات القضائية والقضاة من الدرجات الأدنى. وأيضا لوحظ عدم تجاوب القضاة وأعضاء النيابة العامة مع الحراك رغم تعاطفهم الضمني. فباستثناء أعداد قليلة منهم كان أغلب المشاركين وقادة هذا الحراك من أعضاء الهيئات القضائية التي تضررت من نصوص مسودة الدستور.

ويبدو أن الأيام القادمة ستحمل الجديد خاصة أن الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور لم تعتمد مسودتها بعد وهناك خلاف يطفو على السطح بين أعضائها حول بعض الأبواب والنصوص ومنها باب السلطة القضائية. وهي فرصة مثالية لأعضاء الهيئات القضائية الذين يسعون للتواصل مع الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، والضغط عليها وإقناعها بتعديل المسودة بما يتماشى مع تطلعات أعضاء الهيئات القضائية في ليبيا.

*قاضٍ ليبي

هذا النص نشر في المفكرة القانونية بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015